فِي الدِّينِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» وَلِهَذَا اشْتَغَلَ بِهِ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.
(وَأَوَّلُ) مَنْ فَرَّعَ فِيهِ وَأَلَّفَ وَصَنَّفَ سِرَاجُ الْأُمَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - بِتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَصَّهُ بِهِ، وَاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابٍ اجْتَمَعُوا لَهُ كَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَدَّمِ فِي عِلْمِ الْأَخْبَارِ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادَةَ اللُّؤْلُؤِيِّ الْمُقَدَّمِ فِي السُّؤَالِ وَالتَّفْرِيعِ، وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بْنِ قَيْسِ بْنِ مُكَمِّلِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ذُؤَيْبِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَمْرٍو الْمُقَدَّمِ فِي الْقِيَاسِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَدَّمِ فِي الْفِطْنَةِ وَعِلْمِ الْإِعْرَابِ وَالنَّحْوِ وَالْحِسَابِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَقِيَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَرٍ الزَّبِيدِيِّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَنَشَأَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى مَعَهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ أَنَا فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ وَيَحْلِفَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ». فَمَنْ فَرَّعَ وَدَوَّنَ الْعِلْمَ فِي زَمَنٍ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِهِ بِالْخَيْرِ وَالصِّدْقِ كَانَ مُصِيبًا مُقَدَّمًا، كَيْفَ وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ الْخُصُومُ بِذَلِكَ؟ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفِقْهِ ".
(وَبَلَغَ) ابْنَ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مُقَدَّمًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا يَقَعُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَدَعَاهُ وَقَالَ: يَا هَذَا أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ الرُّبُعَ. قَالَ: وَكَيْف ذَلِكَ؟ قَالَ: الْفِقْهُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِوَضْعِ الْأَسْئِلَةِ فَسُلِّمَ لَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْكُلِّ، وَخُصُومُهُ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْكُلِّ فَإِذَا جَعَلْتَ مَا وَافَقُوهُ مُقَابَلًا بِمَا خَالَفُوهُ فِيهِ سُلِّمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ وَبَقِيَ الرُّبْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ. فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ مَقَالَتِهِ.
(وَمَنْ) فَرَّغَ نَفْسَهُ لِتَصْنِيفِ مَا فَرَّعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمَبْسُوطَ لِتَرْغِيبِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ بِبَسْطِ الْأَلْفَاظِ وَتَكْرَارِ الْمَسَائِلِ فِي الْكُتُبِ لِيَحْفَظُوهَا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا إلَى أَنْ رَأَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إعْرَاضًا مِنْ بَعْضِ الْمُتَعَلِّمِينَ عَنْ قِرَاءَةِ الْمَبْسُوطِ لِبَسْطٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَتَكْرَارٍ فِي الْمَسَائِلِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي تَأْلِيفِ الْمُخْتَصَرِ بِذِكْرِ مَعَانِي كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَبْسُوطَةِ فِيهِ وَحَذَفَ الْمُكَرَّرَ مِنْ مَسَائِلِهِ تَرْغِيبًا لِلْمُقْتَبِسِينَ وَنِعْمَ مَا صَنَعَ.