بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرف الإنسان بنطق اللسان على سائر الحيوان، وفضل اللغة العربية على سائر اللغات بالبيان والتبيان، وألقى في صدف الآذان من جوهر بحار الأذهان ما يربي على الدر والمرجان، وألهم من الكلم المنظوم ما يوفي على المنثور إلا على القرآن، وجعل الشعراء يتسابقون في حلبة الشعر كالخيل يوم الرهان: فمنهم مجل نبرز، وسكيت مقصر عن مدى ذلك الميدان، وميز بين الفكر الصحيح والسقيم في استخراج دفائن معان كالعقيان، فلا يهتدي لإصابة عيون تلك المحاسن إلا المحسنو النضال والطعان، وصلى الله على الكامل المبعوث من عدنان، بأكمل الأديان إلى الإنس والجان، وعلى آله وصحبه أولي الضل والإفضال واليمن والإيمان، وبعد:
فإني لما رأيت ما حظي به أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي من اعتناء الناس بشعره؛ العالم منهم والجاهل، ولهجهم بذكره؛ النبيه فيهم والخامل، والتقييد لأوابد أمثاله السيارة، والتنقيب عن غوامض معانيه الحسنة المختارة، والتمثيل بأبياته الشوارد، والترتيل لآياتها في المشاهد، والتضمين لها في صدور الكتب والرسائل، والتزيين بها في قلوب المجالس والمحافل، وكثرة الشارحين لها من الفضلاء، والحانين عليها من الأدباء، حتى لقد كادت تنسيهم أشعار الأوائل وتلهيهم عن تلك
الفضائل، فتهدم منها ذلك المنار، وتطفئ منها تلك النار. وقد قال في ذلك بعض شعراء أهل العصر: (الرمل)
يَا أبَا الطَّيَّب أَهْدَيْ ... تَ لنا من فِيكَ طِيبَا
مَنْطِقاً نَظْماً كَنظْم ال ... درَّ في الدُّرَّ غَرِيَبا
أَطْرَبَ الأنْفُسَ لَّما ... راحَ للرَّاح نَسِيَبا
مُنْسِيا ذِكْراهُ من ذِكْ ... رى حَبِيبٍ وحَبيبَا