وكثيرا ما طلبت إلى تلاميذي ان يصفوا لي شيئا غير مادي مثل (الفكرة) ، وطلبت اليهم ان يبينوا لي التركيب الكيماوي للفكرة وطولها بالسنتيمترات، ووزنها بالغرامات ولونها وضغطها وان يصفوا لي شكلها وصورتها. وقد عجزوا جميعا عن تحقيق ذلك. وصار من الواضح انه لكي نصف أمرا غير مادي لا بد من استخدام مصطلحات وأوصاف اخرى تختلف اختلافا كبيرا عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم.
اننا لا نستطيع ان نسخر من هذه المشكلة أو نفر منها. فلو لم يكن هذا الكون ثنائيا لاستطعنا ان نعرف الفكرة تعريفا ماديا صرفا، وهو ما لم يحدث أبدا. والنظريات المادية التي قدمها ديموقريطس وهوبز والسلوكيون، وكذلك النظريات المثالية الصرف التي تفر هذا الكون تفسيرا معنويا خالصاً مما قدمه ليبنتز وبيركلي وهيجل، نقول ان هذه النظريات الأحادية جميعا لا تعدو ان تكون مجرد افتراضات تقوم على التخمين ولا تستند إلى اي أساس من الوجهة التجريبية. ولابد لأي فلسفة تحاول ان تفسر الطبيعة والكون من ان تختبر أولا لمعرفة مدى قدرتها على تفسير سائر أنواع الحقائق والعوامل والعناصر التي يتألف منها هذا الكون أو تظهر فيه.
ان العلوم حقائق مختبرة، ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك، وليس باليقين. ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. واننا لنرى ان العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول ان هذا هو ما وصلنا اليه حتى الان، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات.
ان العلوم تبدأ بقضايا أو بديهيات مسلم بصحتها برغم انها لا تستند أساسا على حقيقة