إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا كنا نسير في تفسير سورة الفرقان، وانتهينا فيه إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] .
وسنرجئ الكلام على التفسير لمناسبة قرب شهر رمضان المبارك.
فأولاً: شهر رمضان له مزايا عظيمة: منها: أن الله تعالى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] ، ومن ثم أوجب الله صيامه ليكون شكراً لله عز وجل على هذه المنة العظيمة، وهي إنزال القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ومنها: أن الله فرض صومه فرضاً، وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، وكان أول ما فرض يخير الناس بين أن يصوم الصائم أو يغذي، ثم بعد هذا تعين الصوم وصارت الفدية لمن لا يستطيع الصوم على وجه مستمر، وعلى هذا فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع سنين.
ومن خصائص هذا الشهر: أن الله تعالى سن قيامه على وجهٍ خاص، وهو أنه يسن فيه أن يكون القيام جماعة مع الإمام، ثبت هذا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى بأصحابه ثلاث ليال ثم ترك القيام، وقال: إنه تركه خوفاً من أن يفرض علينا.
وبقي الناس يصلون أوزاعاً، الرجل وحده، والرجل مع الرجلين والثلاثة والأربعة، حتى كان زمن عمر رضي الله عنه، ولما كان زمن عمر قال: [أرى أن يجمع الناس على إمام واحد] فأمر رجلين: أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة انتبه إلى هذا! أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وعلى هذا فصلاة التراويح إحدى عشرة ركعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، ثم فصلت فقالت: يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً) ومعنى قولها: (يصلي أربعاً) أي: يجعلها في وقت واحد لا في تسليم واحد، بل الأربع بتسليمتين كما جاء ذلك مفصلاً في حديثها رضي الله عنها: (ثم يستريح، ثم يصلي أربعاً بتسليمين ثم يستريح، ثم يصلي ثلاثاً) ومن ثم سمي هذا القيام تراويح، لأن الناس يتروحون فيه ويستريحون.
وقيام غيره سنة ولا شك، ينبغي للإنسان ألا يدع قيام الليل ولو كان يسيراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جل وعلا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر) لكن كونها جماعة في المساجد هذا خاص برمضان.
ومن خصائص هذا الشهر: أن صيامه سببٌ لمغفرة الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) كل ما تقدم، إذا صمته إيماناً بالله واحتساباً لثواب الله يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، كل ما تقدم والحمد لله.
ومن خصائصه: أن من قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، كل ما تقدم يغفر لك إذا قمت إيماناً واحتساباً، إيماناً بالله واحتساباً لثوابه؛ فإنه يغفر لك ما تقدم من ذنبك.
ومن فضائل الشهر المبارك: أن فيه ليلة القدر، والدليل أن الله تعالى قال في القرآن العظيم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فإذا جمعت بين الدليلين صارت النتيجة: أن ليلة القدر في رمضان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف يتحرى ليلة القدر، فاعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر، فاعتكف العشر الأواخر.
ومن خصائص هذا الشهر: أنه يسن اعتكاف العشر الأواخر منه، وأما غيره من الشهور فلا يسن فيه الاعتكاف، لكن لو اعتكف فلا بأس، إنما لا يطلب من الناس أن يعتكفوا في غير رمضان، في العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر.
ومن خصائص هذا الشهر: أن العمرة فيه تعدل حجة لحديث: (عمرة في رمضان تعدل حجة) ، حتى لو اعتمرت فطفت وسعيت وقصرت ومشيت تعدل حجة، فليس بلازم أن تبقى يوماً أو يومين أو أكثر، إنما عمرة واحدة تعدل حجة.
وبهذه المناسبة أقول: إن العمرة في رمضان سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة) ، وهذا يعني الحث عليها، ولكن إذا كان الإنسان إمام مسجد أو مؤذن مسجد فهل من حقه أن يذهب من أول يوم من رمضان ويبقى هناك إلى آخر الشهر؟ لا يجوز له ذلك؛ لأن قيامه بواجب الإمامة وواجب الأذان حتم واجب عليه، فكيف يليق بالمؤمن أن يقدم النفل على الواجب؟!! بعض الناس يعبدون الله تعالى ويريدون الخير لكن يجهلون، يقول: أذهب هناك في رمضان أستأنس والحرم والعالم، نقول: لا بأس، هذا طيب، لكن بقاؤك لأداء الوظيفة أفضل، لأنك إذا ذهبت وتركت الوظيفة أثمت.
وبعض الناس يذهب بأهله إلى هناك، وليس له وظيفة، لكن ذهب بأهله وترك الفتيات والفتيان لا يبالي بهم، يخرجون إلى الأسواق يتسكعون فيها وربما ينالهم أذىً من السفهاء، وهو جالس في المسجد الحرام وتاركٌ ما يجب عليه، فإنه يجب عليه رعاية أهله وتحصينهم من سوء الأخلاق، لكن كثير من الناس عمرتهم عاطفة فقط، لا ينظرون إلى الأمور ويزنون بعضها ببعض حتى يعرف ما هو الأحسن والأفضل.
ومن خصائص هذا الشهر: أنه إذا دخل شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران، تفتح أبواب الجنة استقبالاً للعاملين عملاً صالحاً، وهذا يعني حث الناس على العمل الصالح حتى يدخلوا من هذه الأبواب، وتغلق أبواب النار حتى ينكف الناس عن الأعمال الموجبة للنار، لأن أبوابها أغلقت.
ومن خصائص هذا الشهر: أنه تصفد -أي: تغلُّ- فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره.
وله مزايا كثيرة.