لقد ذكرت من قبل أن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية عند العرب كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات, ونزيد هنا "أن الغاية التي نشأ النحو العربي من أجلها, وهي ضبط اللغة وإيجاد الأداة التي تعصم اللاحنين من الخطأ، فرضت على هذا النحو أن يتَّسم في جملته بسمة النحو التعليمي لا النحو العلمي, أو بعبارة أخرى: أن يكون في عمومه نحوًا معياريًّا لا نحوًا أو صفيًا, ولعل أحسن تلخيص لموقف النحو العربي من هذه الناحية المعيارية هو قول محمد بن مالك في ألفيته:
فما أبيح أفعل ودع ما لم يبح1
ولقد تعلقت الإباحة وعدمها بقواعد معيارية تفرض نفسها على الاستعمال وعلى المسموع, وكان توصل النحاة إلى هذه القواعد نتيجة نشاط استقرائي تحليلي للغة, سواء في ذلك مفرداتها وتراكيبها, ولكنهم بعد وصولهم إلى ما ارتضوه من قواعد جعلوا هذه القواعد "أحكامًا", فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع, ومن ثَمَّ أعملوا فيما خالف قواعدهم من النصوص حيل التخريج والتأويل والتعليل, فإذا لم يتأتّ لهم ذلك قالوا في المسموع: "يحفظ ولا يقاس عليه". وهذا موقف من النحاة يفترض في العربي الأول أنه كان على بصر بأقيستهم وعللهم, وقد ورد عن بعض أساطين النحاة ما يؤيد دعوى هذا الافتراض.
والذي يرضاه المنهج الحديث في دراسة اللغة أن يتوافر لموضوع الدراسة الشرطان الآتيان:
1- أن يتناول لهجة واحدة من لهجات لغة ما، فلا يخلط في دراستها بينها وبين لهجة أخرى من اللغة نفسها.
2- أن يعنى في هذه الدراسة الوصفية بمرحلة زمنية واحدة من مراحل تطور هذه اللهجة.
والغاية التي يسعى الشرط الأول إلى تحقيقها: ألّا يخلط في دراسة المعنى على المستوى التحليلي الوصفي بين لهجة وبين لهجة أخرى؛ لأن كل واحدة