وهكذا تعددت روافد هذا البحث, وطال الأمد على إعداده حتى قُدِّرَ له آخر الأمر أن يدوّن ويُعَدّ للطبع وأنا لا أزال معارًا لقسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم.

ومجال هذا البحث هو اللغة العربية الفصحى بفروع دراستها المختلفة، فليس هذا الكتاب كَتْبًا في فرعٍ معينٍ من فروع هذه الدراسات, ولكنه يجول فيها, ويأخذ من كل فرع منها ما يراه بحاجة إلى معاودة العلاج على طريقة تختلف اختلافًا عظيمًا أو يسيرًا عن الطريقة التي ارتضاها القدماء, ثم ينتهي أخيرًا إلى نتيجة مختلفة أيضًا. وإذا كان مجال هذا الكتاب هو الفروع المختلفة لدراسة اللغة العربية الفصحى, فلا بُدَّ أن يكون المعنى هو الموضوع الأخص لهذا الكتاب؛ لأن كل دراسة لغوية -لا في الفصحى فقط, بل في كل لغة من لغات العالم- لا بُدَّ أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وكيفية ارتباطه بأشكال التعبير المختلفة، فالارتباط بين الشكل والوظيفة هو اللغة وهو العرف وهو صلة المبنى بالمعنى. وهذا النوع من النظر إلى المشكلة يمتد من الأصوات إلى الصرف إلى النحو إلى المعجم إلى الدلالة, ويتم ذلك أحيانًا بإطراء القديم والإشادة به، وأحيانًا أخرى باستبعاده والاستبدال به, وأحيانًا بالكشف عن الجديد الذي لم يشر إليه القدماء مع وضوحه أمام أنظارهم، وأحيانًا نجمع الظواهر المتفرقة المترابطة التي لم يعن القدماء بجمعها في نظام واحد. كل أولئك هو مجال هذا البحث, ومن ثَمَّ تصبح اللغة العربية كلها مجالًا له, ويصبح على ضآلة حجمه قد جعل كل تفكير لغوي سبقه في متناول نقده، إما على صورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذه العبارة الأخيرة ربما صلحت لأن تكون تلخيصًا لأبعاد هذا البحث من وجهة النظر السلبية، أما إيجابًا فقد كشف هذا الكتاب عن أنظمة اللغة العربية, ووضَعَها لأول مرة في مقابل مشاكل التطبيق، ففسر بهذه الطريقة بعض ما كان يعتبر من ظواهر الشذوذ في التركيب اللغوي, وربط هذه الظواهر بالواقع، وأضاف إليها غيرها مما لم يدرس من قبل، وبيّن ارتباط هذه الظواهر بالمعنى على مستوياته المختلفة. فلقد بيَّنَ هذا الكتاب كيف ينبني كل نظام من أنظمة اللغة العربية على طائفة من المقابلات, أي: أنواع التخالف, أي: القيم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015