هذا البحث نتاج زمن طويل من إعمال الفكرة ومحاولة إخراجها في صورة مقبولة، فأول عهدي بفكرة هذا البحث ما كان من ورودها على الخاطر سنة 1955, عند ظهور كتابي "مناهج البحث في اللغة", فقد جاء ذلك الكتاب في حينه ليقدِّم إلى القارئ العربي ما اصطنعه الغربيون من منهج وصفي، وليعرض هذا المنهج عرضًا مفصَّلًا, آخذًا أمثلته ووسائل إيضاحه من الفصحى حينًا, ومن العاميات حينًا, ومن لغات أجنبية ثالثًا، فلم يكن بحثًا خالصًا للفصحى بقدر ما كان عرضًا للمنهج الوصفي، ولكنه مسَّ موضوع هذا الكتاب مسًّا خفيفًا على أي حال، وحين كنت أتولى تدريس علم الأصوات اللغوية لطلبة السنة الثانية بكلية دار العلوم بالقاهرة -فيما بين عامي 1953 و1959- كان الاتجاه العام بين أساتذة الكلية في ذلك الحين هو إلى التشكيك في قيمة الدراسات اللغوية الحديثة, ولا سيما عند تطبيق منهجها وأفكارها على دراسة اللغة الفصحى، وكان هؤلاء يرون أن المنهج الوصفي إن صادف أيّ قدر من القبول في نفوسهم, فماكان لهذا القبول أن يتعدى تطبيق هذا المنهج على اللهجات العامية، أما الفصحى فهيهات! لأن الأول ما ترك للآخر شيئًا, حتى إن النحو قد نضج حتى احترق، لهذا كله كنت أقدم لدراسة الأصوات اللغوية كل عام بموضوع يمتّ إلى هذا البحث بأوثق صلة يستغرق محاضرتين, جعلت عنوانه: "تشقيق المعنى", وكنت أبيِّن في تدريس هذا الموضوع ما تتطلبه الفصحى من إعادة النظر في منهجها وطريقة تناولها، وفي سنة 1959 تحولت عن قسم الدراسات اللغوية بكلية دار العلوم ", وهو القسم الذي يعنى أساسًا بالمناهج الحديثة في دراسة اللغة" إلى قسم النحو والصرف والعروض