وما دام الإعراب بحاجة إلى نتائج الصوتيات والصرف, فإننا لن نستطيع إلّا لأغراض البحث أن نفصل في الفهم بين الصوتيات والصرف والنحو, وهذا هو الذي أكدته تمامًا في الفصل الأول حين عقدت تشبيهًا لأنظمة اللغة بأجهزة الجسم الإنساني. فكما أن وظيفة النموِّ تتوقف في الجسم الإنساني على جهاز الغدد الصماء والجهاز الهضمي وجهاز الدورة الدموية والجهاز التنفسي وغير ذلك من الأجهزة التي يتعذّر الفصل بين عملها من الناحية العملية, فلا يفصل بين وظيفة وأخرى من وظائفها إلا للأغراض العلمية, كذلك يتوقف إعراب نصٍّ ما على وظائف الأصوات ووظائف المباني ووظائف القرائن ونظام العلاقات, فلا يفصل في الذهن بين كل ذلك إلّا لأغراض التحليل اللغوي, أما في التركيب فلا فصل.
ولقد أكثر النحاة الكلام عن العامل باعتباره تفسيرًا للعلاقات النحوية أو بعبارة أخرى: باعتباره مناط "التعليق", وجعلوه تفسيرًا لاختلاف العلامات الإعرابية, وبنوا على القول به فكرتي التقدير والمحل الإعرابي, وألفوا الكثير من الكتب في العوامل, سواء ما كان منها لفظيًّا أو معنويًّا, ووصل به بعضهم من حيث العدد إلى مائة عامل1, وتناول بعض النحاة كابن مضاء2 هذا الفهم لطبيعة العلاقات السياقية بالنقد والتفنيد والتجريح, ولكنه بعد أن أبان فسادها بالحجج المنطقية لم يأت بتفسيرٍ مقبول لاختلاف العلامات الإعرابية باختلاف المعاني النحوية, ولم يقم مقام العامل فهمًا آخر لهذه العلاقات غير قوله: إن العامل هو المتكلم, فجعل اللغة بذلك أمرًا فرديًّا يتوقف على اختيار المتكلم, ونفى عنها الطابع العرفي الاجتماعي الذي هو أخص خصائصها.
ولإبراهيم مصطفى3 محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية قال فيها: إن الحركات ذات معانٍ محددة؛ فالضمة علم الإسناد, والكسرة علم الإضافة, والفتحة علم الخفة, ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات, وهو فهم يبدو قصوره وإبهامه إذا وضعناه في ضوء ما ذكرنا منذ