يا أعز المخلوقات علينا: ارض بتدبيرنا، فالمحب لا يتهم، وإنعامنا على ما خلق لك لا يخفى عليك، فكيف ننساك وأنت الأصل؟.
ليس العجب تغذي المولود في حال الحمل بدم الحيض لاتصاله بالحي؛ إنما العجب أن البيضة إذا انفصلت من الدجاجة فمن البياض يخلق الفرخ، وبالمح يتغذى، قد أعطي المخلوق زاده قبل سفر الوجود.
إذا اِنفقأت بيضة الغراب خرج الفرخ أبيض، فتنفر عنه الأم لمباينته لونها، فيبقى مفنةح الفم، والقدر يسوق إلى فيه الذباب، فلا يزال يتغذى به حتى يسود لونه فتعود إليه الأم.
فانظروا إلى نائب اللطف، وتلمحوا شفقة طير الرحمة، ألهم النملة ادخار القوت، ثم ألهمها كسر الحب قبل ادخاره كيلا ينبت، والكسبرة، وإن كسرت قطعتين تنبت فهي تكسرها أربعا.
وَفي كُلِ شَيءٍ لَهُ آَيَةٌ ... تَدُلُ عَلى أَنّهُ واحِدُ
لو رأيت العنكبوت حين تبني بيتها لشاهدت صنعة تعجز المهندس، إنما تطلب موضعين متقاربين، بينهما فرجة يمكنها مد الخيط إليها، ثم تلقي لعابها على الجانبين، فإذا أحكمت المعاقد ورتبت القمط كالسداة اشتغلت باللحمة، فيظن الظان أن نسجها عبث، كلا، إنها شبكة للبق والذباب، وإنها إذا أتمت النسيج انزوت إلى زاوية ترصد رصد الصائد، فإذا وقع في الشبكة شيء قامت تجني ثمار كسبها، فإذا أعجزها الصيد طلبت لنفسها زاوية، ووصلت بين طرفيها بخيط آخر، وتنكست في الهواء تنتظر ذبابة تمر بها، فإذا دنت منها رمت نفسها إليها فأخذتها، واستعانت على قتلها بلف الخيط على رجليها!! افتراها علمت هذه الصنعة بنفسها؟ أو قرأتها على أبناء جنسها؟ أفلا تنظر إلى حكمة من علمها؟ وصنعة من فهمها؟.
لقد نادت عجائب المخلوقات على نفسها ترشد الغافلين إلى باب الصانع، غير أنهم عن السمع لمعزولون.
خلقنا نتقلب في " ستة " أسفار إلى أن يتسقر بالقوم المنزل: السفر الأول: سفر السلالة من الطين، السفر الثاني: سفر النطفة من الظهر إلى البطن، السفر الثالث: من البطن إلى الدنيا، الرابع: من الدنيا إلى القبور، الخامس: من القبور إلى العرض، السادس: من العرض إلى منزل الإقامة.
فقد قطعنا نصف السفر، وما بعد أصعب.
إخواني: السنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤوس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والربح الجنة، والخسران النار، ولهذا الخطب شمر الصالحون عن سوق الجد في سوق المعاملة، وودعوا بالكلية ملاذ النفس.
كلما رأوا مركب الحياة يتخطف في بحر العمر، شغلهم ما هم فيه عن عجائب البحر، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر، فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل، وقد حازوا ربح الدهر.
يا جبان العزم: لو فتحت عين البصيرة فرأيت بإنسان الفكر ما نالوا، لصاح لسان التلهف: يا ليتني كنت معهم، وأين الأرض من صهوة السماء؟؟.
ألا أنت والله منهم ولا تدري من هم.
يا قَلبُ مِن نَجدٍ وَساكنِهِ ... خَلّفتَ نَجداً وَراءَ المُدلَجِ الساري
أَهفوا إِلى الرَملِ تَعلو لي رَكائِبُهُم ... مِنَ الحُمى في أُسَيحاقٍ وَأَطماري
تَفوحُ أَرواحُ نَجدٍ مِن ثِيابِهِمُ ... عِندَ القُدومِ لِقُربِ العَهدِ بِالدارِ
يارَاكِبان قِفالي فاقضِيا وَطَري ... وَخَبِّراني عَن نَجدٍ بِأَخبارِ
هَل رُوَّضَتَ قاعَةَ الوَعساءِ أَو مُطِرت ... خَميلةَ الطَلحِ ذاتُ البانِ وَالغارِ
أَم هَل أَبيتَ وَداري عِندَ كاظِمَة ... داري وَسُمَّارُ ذاكَ الحَي سَماري
فَلَم يَزالا إِلى أَن نَمَّ بي نَفَسي ... وَحَدَّثَ الرَكبُ عَني دَمعي الجاري
ويحك: في صناديق هذه الأيام أودعت بضائع القوم، في هذه المزرعة المحلاة بذروا حبَّ الحب، فإذا حصدوا نادي بك هاتف اللوم: في الصيف ضيعت اللبن.
كُشفت عن عيونهم حجب الفعلة، فنظروا بلا معاينة، وخاطبوا بلا مشافهة.
تراه بالشوق عيني وهو محجوب أنضوا رواحل الأبدان في سفر المحبة، حتى بلغوا منى المنى قبل فوات الوقفة (تِلكَ أُمَةٌ قَد خَلَت) .