قال الشيخ الإمام العالم الحافظ، إمام وقته، وفريد عصره، وعلامة دهره، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي: الحمد لله على ما يوليه، حمدا يرضيه، وصلى الله على من اجتمعت كل المعالم فيه، وقرن اسمه باسم الحق عند الذكر ويكفيه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه.
هذا الكتاب رقت عباراته، ودقت إشارته، نثرته عند الإملاء نثرا من فنون، فهو نصيب أكف لا تلتقط الدون، جعلته طرازا على ثوب الوعظ، وفصا لخاتم اللفظ، يعمل في القلب قبل السمع، وإلى الله الرغبة في النفع.
لا بصفة الأول يحكم له مبدأ، ولا بالآخر صار له منتهى، ولا من الظاهر فهم له شح، ولا من الباطن تعطل له وصف، خرست في حضرة القدس صولة لم؟ وكفت لهيبة الحق كف كيف؟ وغشيت لأنوار العزة عين عين الفكرة، فأقدام الطلب واقفة على حمى التسليم، جل عن أشباه وأثمال، وتقدس عن أن تضرب له الأمثال، وإنما يقع الإشتباه والإشكال، في حق من له أنداد وأشكال، المشبه ملوثن بفرث التجسيم، والمعطل نجس بدم الجحود، ونصيب المحق من بين فرث ودم لبن خالص، هو المتنزه لا يقال: لم لفعله؟ ولا متى لكونه؟ ولا فيم لذاته؟ ولا كيف لوصفه؟ ليس في صفاته أين؟ ولا مما يدخل في أحديته من طالع مرآة صمديته دلته صفاتها على التنزيه، وعلم أنه لا ينطبع فيها شبح الشريك، ولا خيال التشبيه. (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذات الله فتهلكوا) إذا استقبل الرمد الريح فقد تعرض لزيادة الرمد.
جاء البعوض إلى " سليمان " عليه السلام يشكو من الريح، فاستحضر سليمان الريح، فذهب البعوض، فقال " سليمان " إلى أين؟ فقال: لو كان لي قوة الثبوت معها ما شكوت منها.
في ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام لما رأى نبينا صلى الله عليه وسلم تخليط القوم في دعوى الشركن فر في بادية العرب، فتحرى غار حراء للفراغ، فراغ إليه، فجاء مزاحم اقرأ يا راهب الصمت، تكلم لسان العجر البشري: لست بقارىء، أنا بالأمس في حجر حجر حليمة، ودخلت في موت أبي في كفالة أبي طالب، فحم لما حمّ، فزمزم بلطف زملوني، فعاد طيف اللطف ينعت الراقد: (يا أَيُها المُزَمِل) قم يا أطيب ثماركن، يا محمولا عليه ثقل قل، يا من خلع عليه خلعة (قُم فَأنذِر) ومن تحركت لتعظيمه السواكن فحن إليه الجذع، وكلمه الذئب، وسبح في كفه الحصا، وتزلزل له الجبل، كل كنى عن شوقه بلسانه.
عجب القوم من علو منزلته، فقالوا بألسنة الحسد (لَولا نُزِلَ هذا القرآن) والقدر يقول: ماهذا التعجب من نخلة بسقت والأصل نواة؟ (ألم نَخلُقكُم مِن ماءٍ مَهين) مرضوا لقوة داء الحسد فرأوه بغير عينه فقالوا: مجنون، يا محمد: هذا نقش يرقانهمن لا لون وجهك، يا جملة الجمال، يا كل الكمال، أنت واسطة العقد، وزينه الدهر، تزيد على الأنبياء زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، والسماء على الأرض. أنت صدرهم وبدرهم، وعليك يدور أمرهم، أنت قطب فلكهم، وعين كثيبهم، وواسطة قلادتهم، ونقش فصهم، وبيت قصيدتهم، شمس ضحاها، هلال ليلتها، در مقاصيرها، زبر جدها. الخلائق أشخاص، والأنبياء قلوب، ونبينا عليه الصلاة والسلام سرهم.
لما أخذ في سير أسرى، فنقل إلى المسجد الأقصى، خرج إليه عباد الأنبياء من صوامعهم، فاقتدوا بصلاة راهب الوجود، لو كان " موسى وعيسى حيين " أمطها عنك يا عمر، أمع الشمس سراج ".
بعث بالحنيفية السمحة، كانت شرائع الأنبياء كرمضان الصوم، وشرع نبينا يوم العيد، عرضت عليه الجنة والنار حتى عرف الطبيب العقاقير قبل تركيب الأدوية، فل غرب سيف (أََتجَعَلُ فيها) ليلة المعراج ظنت الملائكة أن الآيات تختص بالسماء، فإذا آية الأرض قد علت، لا عجب من ارتفاع صعودهم لأنهم ذوو أجنحة، إنما العجب من ارتفاع جسم طبعه الهبوط بلا جناح جسداني، كان جبريل عليه السلام دليل الفلاح، فلما وصل إلى مفازة ليس فيها علم يعرفه، علم ابن أجود أن الصدق أجود، فقال: ها أنت وربك.
وقع في بادية القرب، فأوجبت هيبة التعظيم أن خرس لسان الطبع، فقال: لا أحصي ثناء عليك، كادت الهيبة تلهبه لولا أن تدورك برش ماء: السلام عليك، فإذا قامت القيامة، فموسى صاحبه، وعيسى حاجبه، والخليل أمير جنده، وآدم ينادي بلسان حاله: يا ولد صورتي، يا والد معناي.