عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 7 - أطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(في دَسْكَرة له) على وزن مَسْكَنة: قصرٌ حواليه بيوتُ الخدم، لفظٌ غير عربي (الرُّشد) ضد الغي بضم الراء والسكون وبفتحهما لغتان. قُرئ بهما في السبعة وهي قراءة حمزة والكسائي (فتُبَايِعُوا هذا النبيِّ) من البيعة بالباء الموحدة. ويروى بتاءين من المتابعة (فحَاصُوا) بالحاء والصاد المهملتين أي: نَفَروا نَفْرة (حُمُر الوحش) الذي هو مثل في هذا الباب، لما فيه من شدة النَّفار. ومنه المحيص: للمَهْرَب (آنفًا) يروى المدّ والقصر. وبه قراءة ابن كثير في السبعة (فكان ذلك آخرَ شأن هرقل) يُشير إلى أنه لم يثبتْ إسلامه بحسب الظاهر، بل الإقرار بالكفر، وإن كان هداه الله تعالى ومات مؤمنًا، فيا لها من سعادة. ومن تأمل في محاورته لأبي سفيان وتقريراته الحُجج، عَرَف قَدْرَ ما كان فيه من الكمالات والعطية، بأنواع السياسات ومعرفة أحوال ابتداء الأنبياء والانتهاء، لله دَرُّه إن رزقه اللهُ الإسلامَ!.
ومناسبة الحديث للباب أنه لم يثبت عنده إيمانه، لكن إن كان في نفس الأمر مؤمنًا ينفعه؛ لأن الأعمال بالنية.
(صالح بن كَيْسَان) -بفتح الكاف وسكون إلياء- تابعي جليلُ القدر، قال ابنُ معين: هو أكبر من الزهري، فعلى هذا روايتُه من رواية الأكابر عن الأصاغر، عاش مئة ونيفًا وستين سنة. قيل: اشتغل بالعلم وعمره ستون سنةً.
قال بعضُ الشارحين: هذا داخل تحت الإسناد الأول، كأنه قال أبو اليمان: أخبرني هؤلاء الثلاثة. وردّه شيخُ الإسلام بأن أبا اليمان لم يَلْحق صالح بن كيسان ولا يسمعُ يونس. قلتُ: عدم السماع مُسَلَّم، لكن عدم اللحوق ممنوع؛ فإن أبا اليمان ولد سنة ثمان وثلاثين ومئة. ومات سنة ست وأربعين. قاله أبو الفضل المقدسي.