يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا». أطرافه 1904، 5927، 7492، 7538
ـــــــــــــــــــــــــــــ
توجيه معناه أنّ ثواب الخلوف أكثر من ثواب المسك في الأعياد والجمعات. وفيما قاله نظر؛ لأن ذلك معلوم لكل واحد، ويأباه لفظ "أطيب عند الله" بل الصواب أن هذا كلام على طريقة التمثيل بحال من يتلذذ بالروائح الطيبة، ولما كان المسك أطيب من كل طيب مثّله به، محصله غاية الرّضا بذلك العمل، وأجزل الثواب عليه (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) هذا قطع من الحديث القدسي؛ وهو الحديث الذي يرويه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى، والفرق بين القرآن والحديث القدسي ليس لفظهُ معجزًا، وتقدير الكلام: قال الله تعالى، وإنما حذفه لأن المقام غير ملتبسٍ على أحد، ويناسب ما قبله في الفضيلة أردفه به (الصيام لي وأنا أجزي به).
فإن قلت: العبادات كلها لله؟ قلت: الإضافة للتشريف؛ كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
فإن قلت: الصلاة أفضل من الصيام؟ قلت: الفضل في الصوم من وجه لا ينافي أفضلية الصلاة مطلقًا.
فإن قلت: ما ذلك الوجه الذي استحق به الصوم هذه الإضافة؟ قلت: قيل لأن سائر العبادات يقع فيها الرياء؛ بخلاف الصوم، ويرد عليه الوضوء، وكثير من العبادات؛ على أنهم اتفقوا على أن الفرائض لا يجري فيها الرياء، فيخرج رمضان الذي هو الأصل في هذا الباب، وقيل: لأن الصوم إمساك عن الأكل والشرب وسائر الشهوات، وذلك من صفاته تعالى، ويرد عليه الصلاة؛ فإنها تشتمل على الإمساك عن المذكورات مع الزيادة، وقيل غيرها.
وأحسن ما قيل فيه: إن الصوم لم يعبد به غيره تعالى في ملة من الملل؛ بخلاف الصلاة وسائر العبادات، فإنه وقع التقرب بها إلى المعبودات الباطلة، فهي عبادة خالصة له تعالى.
فإن قلت: ما معنى قوله: "كل عمل ابن آدم له" فإن كان المراد النفع كما هو الظاهر من معنى الّلام فلا شك أنّ الصّوم لا نفع له، تعالى عن ذلك؟ قلت: معناه ما روى البيهقي: "إن أعمال العباد تؤخذ في المظالم إلاّ الصوم، فإنه يقال: لا يعطى ثوابه لأحد، بل يعطي المظلوم من خزائن فضله" وعلى هذا يظهر معنى اللام، فإن الذي كان للعبد قد أذهب عنه