وما يبكيكم؟ قالوا: قتل خيارنا وأشرافنا فقال: (لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقةٍ قام عليها صاحبها، فحلق سعفها، وهيأ مساكبها، فأطعمت عامًا فوجًا، وعامًا فوجًا، فلعل آخرها طعمًا يكون أجودها قنوانًا، وأطولها شمراخًا، والذي بعثني بالحق نبيًا ليجدن ابن مريم في أمتي خلفًا من حواريه).
وفي حديث جبير بن نفير الحضرمي- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (ليدركن المسيح من هذه الأمة أقوامًا إنهم لمثلكم أو خير منكم- ثلاث مرات- ولن يجزيّ الله أمةً أنا أولها والمسيح آخرها).
فظهر بما تقدم، أن الأخير قد يساوي الأول مع تجويز أن يفضل قوم من المتأخرين بقوله: (أو خير منكم).
وفي حديث أبي ثعلبة الخشني الآتي في الباب العاشر قوله- صلى الله عليه وسلم-: (إن من ورائكم أيامًا، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل أجر خمسين رجلًا يعلمون مثل عملكم) قال ابن المبارك: وزادني غير عتبة قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين رجلًا منكم. رواه أصحاب السنن وغيرهم. فانظر وجه الجمع بين هذه المماثلة والتفضيل للمتأخرين في هذين الحديثين. وهي فضيلة القرن الأول، وأنه لا يدرك أحد مُدَّ أحدهم، وذلك أنَّ أصحابه- رضي الله عنهم- سبقوا الخلق، وفضلوا من بعدهم، بسبقهم في الوجود في زمنه، وبصحبتهم إيَّاه، ورؤيته لا يلحقهم في هذا أحد بنفقةٍ ولا عمل، لقوله: {والسابقون الأولون}.
كما روى مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) يعني أن هذا أمر فرحتم بسبقه، فلم يعنه بقوله مما ذكر في الأحاديث الأخر من مساواة الآخرين لهم، أو فضلهم، بل أراد أن الآخرين يساوون الأولين في الأعمال وثواب الطاعات والمجاهدات (والأفعال) ألا تسمعه كيف قال: (ثواب العامل