من سكنى مكة - أعزها الله- ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار. ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم، قال عمر بن الخطاب بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فاتفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله - حرام عليه الانتقام - كما قال لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.
المشهد التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه.
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلومًا يترقب النصر ولم يجعله ظالمًا يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين -ولابد من إحداهما - لأختار أن يكون مظلومًا.
ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به خطاياه فذلك-في الحقيقة- دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه .. ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء فهو مغبون سفيه. فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته من كان على يديه وانظر إلى شفقه الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده. وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين هينة، وأنهما بالنسبة لمصيبة الدين في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين. ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة.
وفي بعض الآثار: إنه يتمنى أناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء. هذا وإن العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض فالعاقل يعد هذا دخرًا ليوم الفقر والفاقه. ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئًا.