وأيضًا؛ فقولهم: «أمرُّوها كما جاءت»: يقتضي إبْقاءُ دلالتهَا على ما هي عليهِ، فإنَّها جاءتْ ألْفاظًا دالةً على معاني؛ فلو كانتْ دلالتهَا منْتفيةً؛ لكانَ الواجبُ أنْ يقالَ: «أمرُّوا لفظهَا مع اعْتقادِ أنَّ المفْهومَ منها غيرُ مرادٍ»، أو «أمرُّوا لفْظَهَا مع اعْتقادِ أنَّ الله لا يوصفُ بما دلَّتْ عليهِ حقيقةً». وحينئذٍ فلا تكونُ قدْ أُمرَّتْ كما جاءتْ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيفٍ؛ إذْ نفيُ الكيفِ عمَّا ليسَ بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ (?).
فلا يقالُ إنَّ السَّلفَ - رحمهم الله تعالى - تلقَّوا النُّصوصَ فلم يفهموها، ففوَّضوا معناها. ولا يجوزُ أن يشتملَ القرآنُ على ما لا يُعلمُ معناه (?) - حاشاهم منْ ذلكَ - «بل كفُّوا عَنِ الثرثرةِ، والتشدُّقِ، لا عجزًا بحمدِ الله عَنِ الجدالِ والخصامِ، ولا جهلًا بطرقِ الكلامِ، وإنَّما أمسكوا عَنِ الخوضِ في ذلكَ عنْ علمٍ ودرايةٍ، لا عنْ جهلٍ وعمايةٍ» (?).
السؤالُ الخامسُ
كيف استوى على العرش؟
مِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتهُ وتلائمُ حقيقتهُ؛ فمنْ لم يفهمْ منْ صفاتِ الرَّبِّ - الذي ليس كمثله شيءٌ - إلَّا ما يناسبُ المخلوق فقدْ ضلَّ في عقلهِ ودينهِ.
فقولُ السَّائلِ: كيفَ استوى؟ بمنزلةِ قولهِ: كيفَ ينزلُ؟ وقولهِ: كيفَ يسمعُ؟ وكيفَ يبصرُ؟ وكيفَ يعلمُ ويقدرُ؟ وكيفَ يخلقُ ويرزقُ؟
فنحنُ نعلمُ معنى الاستواءِ ولا نعلمُ كيفيَّتهُ، ونعلمُ معنى السَّمعِ والبصرِ والعلمِ والقدرةِ، ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ. ونعلم معنى الرَّحمةِ والغضب والرضا والفرحِ والضَّحكِ ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ (?).