أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، فجعله ذِكرى لمن جمع بين القلب الحيّ وأصغى بسمعه وحضر بقلبه، كما يفعله كثير من السماعاتية عند السماع الشيطاني، كيف تَنفتِحُ له صدورهم، وتُصغي إليهم أسماعُهم، وتَشهدُ قلوبهم، فإذا جاء السماع الإيماني فهم صُمٌّ بكمٌ عميٌ {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. والظاهر -والله أعلم- أنَّ أبا عثمان إنما أراد أهلَ السماع الإيماني القرآني، فإنهم أهل الحق، ولم يُرِدْ أهلَ السماع الشعري الشيطاني، فإنَّهم لا قلوبٌ حاضرة ولا أسماعٌ مفتوحة.
فصل
وأما قول أبي سهل الصعلوكي (?): "المستمع بين استتارٍ وتجلٍّ" إلى آخر كلامه، فهو كلام دال على أحوال أهل السماع، وهو مطلق يتناول السماع الشرعي والبدعي، لكن هو إلى وصف حال أهل السماع المحدث أقربُ، وهو وصف لبعض أحوالهم، فإنَّ أحوالهم أضعافُ ذلك.
وأما استدلاله بالآية فما أبعَدها مما استدل به عليه! فإنَّ الآية إنما سِيْقَتْ للإخبار عن الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله يستمعون القرآن، ليقيم عليهم حجةً وليبلِّغوا مَنْ وراءهم، فأنصتوا لاستماعه، ليعلموا حقيقته ويفهموه ويحفظوه، ولهذا قال: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. فصاروا باستماعه مؤمنين، وبتبليغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -