بأوصافها وأحكامها، ثم فناؤه عن حظوظه وإرادتِه التي لها، وذلك إنما يكون عند توليةِ سلطانِ الحقيقة على سِرِّه، وظهور أحكامها التي تنسخ أحكامَ البشرية. والحقيقة التي يشيرون إليها هي حقيقة التوحيد التي يفنَى صاحبها عن شهود السِّوى، وإرادة السوى، فلا يبقى لقلبه شهودُ غير الله، ولا مرادٌ سواه. فهذا شرح كلامهم.
فيقال أولًا: لا يمكن الاستغناء عن أحوال البشرية مادامت البشرية موجودةً، فإن الفقر إلى لوازم البشرية أمر ذاتي، وما بالذات لا يَستغني عنه البتّةَ، قد يستغني لشهود الفقر المطلق إلى الغني بذاته الذي كل شيء مفتقر إليه، ويفنى بشهود فقره إليه عن فقره إلى ما سواه، فيكون في غناه فقيرًا إليه، وفي فقره غنيًّا به.
ويقال ثانيًا: إذا كان في هذه الحال التي قد فني بها عن أحوال البشرية، فكيف يصح له العبور في هذا السماع الذي كله أحوال البشرية إلى شهود الحقيقة وأحكامها؟ وهي إنما نالها من طريق هذا السماع، ودخل إليها من بابه، فلا يحصل له ذلك حتى يفنى عن الكائنات، ولا يبقى له شهودٌ بالأحوال البشرية، ويفنَى عن الحظوظ البشرية كلها.
ويقال ثالثًا: لا يصل إلى هذا الحدّ إلا إذا ظهر سلطان التوحيد على قلبه، وهو المشار إليه بقوله: "بظهور أحكام الحقيقة"، ومعلوم قطعًا أن مع ظهور سلطان التوحيد لا يبقى له سعةٌ إلى الغناء وسماع الأبيات، فإن سلطان التوحيد قد قهر حواسَّه، وملك عليه مشاعره، وصار التصرف له وحده، فهو في هذه الحال في شغلٍ عن كثير من