والعاقل العارف بالواقع يعلم أنَّ إفضاء هذا السماع إلى ما حرَّمه الله ورسوله إن لم يزد على إفضاء النظر فليس بدونه، بل كثيرًا ما يكون إفضاؤه فوق إفضاء الخمر، فإن سُكر الخمر إفاقةُ صاحبه سريعة وسُكر السماع لا يستفيق صاحبه إلا في عسكر الهالكين.
فصل
فإن قال هذا المغرور المخدوع: إن سماع هذا الغناء المطرب بهذه الآلات المطربة المزعج للطباع الداعي لها إلى العشق ولوازمه لا يُؤثِّر عندي، ولا أسمعه لهذا الغرض، ولا يلتفت قلبي إلى حب ما يوصف فيه، وإنما أُنزله على مقتضى حالي ووجدي في حب الله والدار الآخرة، فهو يُثير من قلبي ما هو كامن فيه، كما يثير من قلب محب الدنيا والصور ما هو كامن فيه، فإن سماعي لله وبالله، فلا يضرُّني ما فيه من المفاسد، بخلاف سماع أهل اللهو واللعب.
فالجواب أن يقال: هذا موضع الغرور والتلبيس، ومنه وقع مَن وقع في شبكة السماع وشَرَكِه، ورام التخلصَ منها فعزَّ عليه.
فيقال له أولًا:
ما الفرق بينك وبينَ من يقول: أنا أنظر إلى الصور المستحسنة من النساء الأجانب وإلى معاطفهن وقدودهن وخدودهن وسائر محاسنهن، وليس نظري نظر الفساق، فأنظر إليهن نظرَ اعتبارٍ واستدلال وتفكر في كمال قدرة الخالق، فأتعجب من حسن الصنعة في استدارةِ ذلك الوجه وحسنه، وتناسب خَلْقه، وتبلُّجِ تلك الجبهة والجبين فوقه