فلما جاء إلى نفوس أهل الإرادة والسالكين إلى الله، لم يمكنه أن يدعوهم من باب النظر والخمر، فدعاهم من باب السماع، فلما دخلوا منه بَرْطَلَ نفوسهم، بأن خلَّى بينها وبين حركة الحب، وقطع عنها الوساوس وخطرات المعاصي والفجور، وجمعها على السماع أتمَّ جمع، ولم يشوّش عليها بوسواس ولا خطرات. فوجدت بذلك النفوس راحةً من وساوسها وخطراتها، وقوةً عظيمة بجمعيتها، حتى إنَّ أحدهم يجد من الحال في السماع ما لا يجده في الصلاة ولا عند قراءة القرآن، وكل هذا من براطيل النفس والشيطان ليتم لهما مرادهما، فلما ذاقت النفوس في السماع هذا الذوق، ووجدت فيه هذا الوجد، تمكن حبُّه منها، وبلغ كلَّ مبلغ، فأسرَها وملكَها.
فشيطان السماع كامنٌ لها، يجمع قوته للوثوب، فلما عرف أنَّ السماع قد تمكن منها، وتغلغل في أجزائها، وثب عليها وثبةَ الأسد على فريسته، واصطادها فيه أتم صيده، فوالله لو كُشِف الغطاء لبصيرة عبدٍ منورةٍ بنور الإيمان، لرأى أهله بين قتيل وصريع، وجريح وأسير، وهذه أحوالهم وشطحاتهم وكلماتهم تُنبِئك عما حلَّ بهم، فصادقُهم يبكي على صوت الشبابة والدفّ والشعر الذي لعله قيل في محرم، يُسخِط الله طول ليله، ويَرِقّ ويتواجد ويهيم، وتُقرأ عليه الختمة من أولها إلى آخرها، والقلب من هذه الأحوال مُجدِب، والعين من البكاء قحطة. فيا للعقول! أي دليل أبين من هذا؟ أو أي برهان أظهر منه على أن اكتساب القلب للنفاق من هذا السماع أقرب من اكتسابه لحقائق الإيمان؟