قلت: وهذا القول مردود مرذول، والحديث الدال عليه باطل ولا يصح الاحتجاج به، وكون هذه الحروف تدل على أجل هذه الأمة ومدتها، أو على معرفة الحوادث يحتاج إلى توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم- أن حرف كذا يدل على حادثة كذا وكذا، أو أن حادثة كذا يدل عليها الحرف كذا.
ومن العجيب أن أبا جعفر الطبري ضرب عن هذا القول صفحاً أول الأمر فقال: "وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجُمَّل، كرهنا ذكر الذي حُكِي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله" (?).
ثم هو بعد عدة صفحات ألمح إلى أن هذا القول مُعْتَبَر، ثم ذكر هذا الحديث السابق (?)، وهذا تناقض واضح.
قال ابن كثير: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المُدَد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته" (?).
وأما الأخذ بحساب الجمل أو (أبي جاد) فهو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرب ـ سبحانه ـ الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به، وهو أقرب ما يكون إلى السحر والتنجيم.
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر هذا القول: "الحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد (أبي جاد)، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة" (?).
وابن حجر يشير إلى حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: رب مُعَلِّم حروف أبي جاد، دارس في النجوم ليس له عند الله خَلاق (?) يوم القيامة (?).
أما سبب اختصاص كل سورة بالحروف التي افتتحت بها، فمرد ذلك أن هذه السور إنما جاء في أول كل سورة منها الحروف التي كثر تردادها فيما تركب من كلماتها.
ويوضح ذلك أننا إذا قارنا بين سورة من هذه السور التي افتتحت بهذه الحروف وبين سورة أخرى تماثلها أو تقاربها في الطول وعدد الكلمات لوجدنا أن الحروف المفتتح بها تلك السورة أكثر عدداً في كلماتها من السورة الأخرى.
قال الزركشي في البرهان: "ومن ذلك السور المفتتحة بالحروف المقطعة ووجه اختصاص كل واحدة بما بُدِئت به حتى لم تكن لترد {الم} في موضع {الر}، أو {حم} في موضع {طس}، وكذا وقع في كل سورة منها ما كثر ترداده فيما يتركب من كلمها، ويوضحه أنك إذا ناظرت سورة منها بما يماثلها في عدد كلماتها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السورة إفراداً وتركيباً أكثر عددً في كلماتها منها في نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها، وقد اطرد هذا في أكثرها، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع موضع {ق} من سورة {ن} لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله - تعالى-" (?).