فأنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر: 3]، وأنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، إلى قوله: " {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (?) " (?). وروي عن قتادة (?)، ومجاهد (?)، والسدي (?)، وعكرمة (?)، نحو ذلك.

وفي السياق نفسه اخرج الطبري عن ابن عباس أيضا: ": كان الذين حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووَحْوَح بن عامر، وهوذة بن قيس فأما وحوح وأبو عمار وهوذة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت}، إلى قوله: {وآتيناهم ملكًا عظيمًا} " (?).

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 51]، أي: " ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم" (?).

قال الشوكاني: " قوله: {ألم تر}، هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأول، وهم اليهود" (?).

قال القاسمي: أي: أعطوا: "علما بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله. والكفر بالجبت والطاغوت. ووصفهم بما ذكر، من إيتاء النصيب، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح" (?).

قال الإمام الشافعي: " أهل كتاب، بدَّلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذباً صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من كفرهم - نماذج منها -: وقال اللَّه تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [النساء: 51 - 52] " (?).

قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، أي: "يصدّقون بكل ما يُعبد من دون الله من الأصنام وشياطين الإنس والجن تصديقا يحملهم على التحاكم إلى غير شرع الله" (?).

وفي قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، أقوال:

أحدها: أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما، وهذا قول عكرمة (?).

والثاني: أن الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، وهذا قول ابن عباس (?).

والثالث: أن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وهذا قول عمر (?)، ومجاهد (?)، والشعبي (?).

والرابع: أن الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان. قاله ابن زيد (?).

والخامس: أن الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن، وهذا قول سعيد بن جبير (?)، ورفيع (?)، وأبو العالية (?).

والسادس: أن الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وهذا قول قتادة (?)، والسدي (?).

والسابع: ان الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر. وهذا قول محمد بن سيرين (?)، وسعيد بن جبير في رواية أخرى (?).

والثامن: أن الجبت: حُيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، وهو قول الضحاك (?)، وابن عباس في رواية أخرى (?).

والتاسع: ان الجبت: كعب بن الأشرف، والطاغوت: الشيطان. وهذا قول مجاهد في رواية أخرى (?).

والعاشر: أن الجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت: الشيطان. قاله صاحب الكشاف (?).

والحادي عشر: أن {الجبت} و {الطاغوت}: اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وهذا قول الطبري (?).

قال الطبري: " والصواب من القول في تأويل: {يؤمنون بالجبت والطاغوت}، أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله، يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين، وذلك أن {الجبت} و {الطاغوت}: اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جُبوتًا وطواغيت. وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين" (?).

قال ابن عطية: "فمجموع هذا يقتضي أن بالجبت والطاغوت هو كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى، وكذلك قال مالك رحمه الله: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت: هو من لغة الحبشة، وقال قطرب: بالجبت أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما الطاغوت فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا" (?).

قال السعدي: " وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله، فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعبادة غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت" (?).

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]، أي: " ويقولون للذين كفروا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الكافرون أقْومُ، وأعدلُ طريقًا من أولئك الذين آمنوا؟ " (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015