في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما مُنِع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل، فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبباً لاستماع ما بعده، فترق القلوب وتلين الأفئدة، ويؤكد هذا أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور (?).

قال الفخر الرازي: "إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه، ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود، فقد يكون ذلك المقدم كلاماً له معنى مفهوم كقول القائل اسمع، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يضفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه، ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود اكثر، فاختار الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم إسماع ما بعد ذلك، فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولاً مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه، أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود، فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة" (?).

إذا ثبت هذا فنقول: ذلك المُقَدَّم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع، واجعل بالك إلى، وكن لي. وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيد، ويا زيد، وألا يا زيد. وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه. وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه، ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود أكثر، ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال: أزيد. والبعيد بـ (يا) فيقال: يا زيد. والغافل يُنَبَّه أولاً فيقال: ألا يا زيد.

إذا ثبت هذا فنقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- وإن كان يقظان الجَنَان (?) لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يُفْهَم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك، فإذا كان ذلك المُقَدَّم كلاماً منظوماً وقولاً مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه، أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.

فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة" (?).

وهذا القول -والله أعلم- ضعيف لا تسنده حجة ولا يقويه برهان، فلو كان المقصود من هذه الحروف تنبيه الغافل لكان من الأولى أن تفتتح بها كل سور القرآن إذ لا داعي لتخصيص بعضها دون بعض، ثم إن العرب لم يكونوا بحاجة لمن يوقظهم من غفلتهم، ذلك أن النبي صلى االله عليه وسلم أتاهم بكتاب قوض عبادتهم، وسفه أحلامهم، وكفى بذلك إثارة لأسماعهم لأن ينصتوا إلى ما جاءهم به مخالفهم، زد على ذلك أن أسلوب القرآن ونظمه فيه من جذب أسماعهم واستمالتهم ما يكفي، كيف لا وهم كانوا يستمعون للقرآن خلسة وقد كان يؤثر عليهم رغم كفرهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015