قال السدي: " إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلمًا، يُبعث يوم القيامة ولهبُ النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم" (?).
وعن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: "من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة، فيملأ فوه جمرا، فيقال له: كل كما أكلته في الدنيا، ثم يدخل السعير الكبرى" (?).
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشِّرْكُ بالله، والسِّحْر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات" (?).
وأخرج الطبري عن عن أبي سعيد الخدري قال: "حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: «نظرت فإذا أنا بقوم لهم مَشافر كمشافر الإبل، وقد وُكِّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرًا من نار يخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال، هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا» " (?).
قال ابن عباس: " لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما جعل كل رجل، في حجره يتيم- يعزل ماله على حدة، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (?) فأحل لهم خلطتهم" (?). قال ابن أبي حاتم: "وروي عن مجاهد والحسن، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك نحو ذلك" (?).
قال الشنقيطي: " وهذه الآية الكريمة تدل على أن ظلم اليتيم حرام، ولما أنزل الله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: آية 10] خاف الصحابة الذين عندهم أيتام، وعزلوا مال الأيتام عن مالهم، وطعامهم عن طعامهم، حتى صار ما فضل عن اليتيم من طعامه يبقى ولا يجد من يأكله؛ خوفا منه، وربما فسد، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله آية البقرة المعروفة: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم} " (?).
وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، وجهان (?):
أحدهما: يعني انهم يصيرون به إلى النار.
والثاني: أنه تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار.
قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، أي: "وسيدخلون ناراً هائلة مستعرة وهي نار السعير" (?).
قال الطبري: أي: " وسيصلون نارا مسعرة، أي: موقودة مشعلة شديدًا حرُّها" (?).
قال السعدي: " أي: نارا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية" (?).
قال ابن زيد: " قال أبي: إن هذه لأهل الشرك، حين كانوا لا يورَّثونهم، ويأكلون أموالهم" (?).
وقوله: {وَسَيَصْلَوْنَ}: "الصلاء: لزوم النار" (?)، وذلك التسخن بها، كما قال الفرزدق (?):
وَقَاتَلَ كَلْبُ الْحَيِّ عَنْ نَارِ أهْلِهِ ... لِيَرْبِضَ فِيهَا وَالصَّلا مُتَكنَّفُ
وكما قال العجاج (?):
مُحْرَنْجَمُ الجامِلِ والنُّؤِيُّ ... وَصَالِيَاتٌ لِلصَّلا صُلِيُّ
ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرًا من الأمور، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك، كما قال الحارث بن عباد البكري (?):
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا، عَلِمَ اللهُ ... وَإِنِّي بِحَرِّهَا اليَوْمَ صَالِي
فجعل ما باشر من شدة الحرب وأذى القتال، بمنزلة مباشرة أذى النار وحرِّها (?).
والسعير: "إسعار النار، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] " (?)، "فوصفها بأنها مسعورة وهو شدة حر جهنم، ومنه قيل: استعرت الحرب إذا اشتدت، وإنما هو مَسعور، ثم صرف إلى سعير، كما قيل: كفّ خَضِيب، ولِحية دهين، وإنما هي مخضوبة، صرفت إلى فعيل" (?).
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي {وسيصلون} بفتح الياء
وقرأ ابن عامر {وسيصلون} بضم الياء، واختلف عن عاصم فروى أبان وأبو بكر بن عياش والمفضل عنه {وسيصلون} مثل ابن عامر بضم الياء و {تصلى نارا حامية} [الغاشية 4]، بضم التاء أيضا، وروى عنه حفص {وسيصلون} بفتح الياء و {تصلى نارا} مفتوحة التاء {ويصلى سعيرا} [الانشقاق 12] مفتوحة الياء (?).
قال الطبري: "والفتح بذلك أولى من الضم، لإجماع جميع القرأة على فتح الياء في قوله: {لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى} [سورة الليل: 15]، ولدلالة قوله: {إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ} [سورة الصافات: 163]، على أن الفتح بها أولى من الضم" (?).
قال ابن الجوزي: " قد توهم قوم لم يرزقوا فهم التفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]، وأثبتوا ذلك في كتب الناسخ والمنسوخ، ورووه عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما المنقول عن ابن عباس: «{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه، فاشتد ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، فأحل لهم طعامهم» (?).
وقال سعيد بن جبير: "لما نزلت: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} عزلوا أموالهم من أموال اليتامى، وتحرجوا من مخاطبتهم فنزل قوله: تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} 1. وهذا ليس على سبيل النسخ؛ لأنه لا خلاف أن أكل أموال اليتامى ظلما حرام" (?).
ثم نقل ابن الجوزي عن أبي جعفر النحاس: أن"هذه الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ، لأنها خبر ووعيد، ونهي عن الظلم والتعدي، ومحال نسخ هذا، فإن صح ما ذكروا عن ابن عباس فتأويله من اللغة: أن هذه الآية على نسخة تلك الآية" (?).
وقد وزعم بعضهم أن ناسخ هذه الآية قوله تعالى: {من كان فقيرا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] (?).
قال ابن الجوزي: " وهذا قبيح؛ لأن الأكل بالمعروف ليس بظلم فلا تنافي بين الآيتين" (?).