قال الطبري: أي: " ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته" (?).
قال الراغب: " يعني في الموالاة الدينية، لقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] وقوله لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] ردا عليه لما قال في الكناية عن هذا العدو" (?).
وفي قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران: 34] وجهان:
أحدهما: أنهم صاروا ذرية بالتناصر لا بالنسب، كما قال تعالى: {المُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] يعني في الاجتماع على الضلال، وهذا قول الحسن (?)، وقتادة (?).
والثاني: أنهم في التناسل والنسب، إذ جميعهم من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، وهذا قول بعض المتأخرين (?).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34] أي: والله " سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم" (?).
قال محمد بن إسحاق: " أي: سميع لما يقولون، عليم بما يخفون" (?).
قال مقاتل: {سميع}: "لقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أشد حبا لله، {عليم} بما قالوا، يعنى اليهود" (?).
قال الطبري: أي: " والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا" (?).
الفوائد:
1 - بيان أن البشر جنس بعضه من بعض، لقوله: {ذرية بعضها من بعض}.
2 - الرد على من زعم بأن البشر تطور من جنس لآخر، من القردة إلى الآدميين إلى البشر، والصحيح أن أصل البشر من آدم، الذي خلقه الله من تراب.
3 - إثبات اسمين من أسماء الله تعالى، وهما: السميع، والعليم، فالسميع يتعلق بالأصوات، والعليم يتعلق بكل شيء بالأصوات والأحوال والأعيان.
القرآن
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)} [آل عمران: 35]
التفسير:
اذكر -أيها الرسول- ما كان من أمر مريم وأمها وابنها عيسى عليه السلام; لتردَّ بذلك على من ادعوا أُلوهية عيسى أو بنوَّته لله سبحانه، إذ قالت امرأة عمران حين حملت: يا ربِّ إني جعلت لك ما في بطني خالصا لك، لخدمة «بيت المقدس»، فتقبَّل مني; إنك أنت وحدك السميع لدعائي، العليم بنيتي.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35]، " أي اذكر لهم وقت قول امرأة عمران" (?).
قال البيضاوي: " وهذه حنة بنت فاقوذ جدة عيسى، وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون فظن أن المراد زوجته ويرده كفالة زكريا فإنه كان معاصراً لابن ماثان وتزوج بنته ايشاع، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة من الأب روي أنها كانت عاقراً عجوزاً، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه، فحملت بمريم وهلك عمران وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم للغلمان فلعلها بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكراً" (?).
قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35]، أي: ربّي إني "نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني" (?).
قال عكرمة: " أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه" (?).
قال الحسن: " نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها" (?).
قوله تعالى: {مُحَرَّراً} [آل عمران: 35]، " أي: مخلصاً للعبادة والخدمة" (?).
قال سعيد بن جبير: "للبيعة والكنيسة" (?).
قال عكرمة: " قوله: {نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا}، إنها للحرّة ابنة الحرائر {محررًا} للكنيسة يخدمها" (?).
قال محمد بن جعفر بن الزبير: "تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا" (?).
قال مجاهد: " خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا" (?)،
قال قتادة: " كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها" (?).
قال السدي: " وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا" (?).
قال الربيع: " كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها" (?).
قال الضحاك: " جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه" (?).
قال التستري: " أي حررته وأعتقته من رق الدنيا من متابعة هواه ومرادات نفسه، وجعلته خادماً لعباد بيت المقدس خالصا لله تعالى" (?).
قال البيضاوي: " معتقاً لخدمته لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة" (?).
قال الطبري: " يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة" (?).
ولأهل العلم في تفسير قوله تعالى: {مُحَرَّراً} [آل عمران: 35]، " ثلاثة أقاويل: