والجواب: إن كان يرجو أن يجد حلالاً عن قرب فيجب أن يقتصر على ما يسد رمقه؛ وإن كان لا يرجو ذلك فله أن يشبع، وأن يتزود منها - وأن يحمل معه منها - خشية أن لا يجد حلالاً عن قرب.
ومعنى الضرورة أنه لا يمكن الاستغناء عن هذا المحرم؛ وأن ضرورته تندفع به - فإن لم تندفع فلا فائدة؛ مثال ذلك: رجل ظن أنه في ضرورة إلى التداوي بمحرم؛ فأراد أن يتناوله: فإنه لا يحل له ذلك لوجوه:
الأول: أن الله حرمه؛ ولا يمكن أن يكون ما حرمه شافياً لعباده، ولا نافعاً لهم.
الثاني: أنه ليس به ضرورة إلى هذا الدواء المحرم؛ لأنه قد يكون الشفاء في غيره، أو يشفى بلا دواء.
الثالث: أننا لا نعلم أن يحصل الشفاء في تناوله؛ فكم من دواء حلال تداوى به المريض ولم ينتفع به؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: «إنها شفاء من كل داء إلا السام - يعني الموت» (?)؛ فهذه مع كونها شفاءً لا تمنع الموت؛ ولذلك لو اضطر إلى شرب خمر لدفع لقمة غص بها جاز له ذلك، لأن الضرورة محققة، واندفاعها بهذا الشرب محقق.
الخلاصة الآن: أخذنا من هذه الآية الكريمة: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} قاعدتين متفقاً عليهما؛ وهما:
أ - لا واجب مع العجز.
ب - ولا محرم مع الضرورة.
3 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يحمل وزر غيره؛ لقوله تعالى: {وعليها ما اكتسبت}.
إذا قال قائل: ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (?)؟
فالجواب: أن هذا لا يرد؛ لأن الذي فعلها أولاً اقتدى الناس به؛ فكان اقتداؤهم به من آثار فعله؛ ولما كان هو المتسبِّب، وهو الدال على هذا الفعل كان مكتسباً له.
4 - ومنها: يسر الدين الإسلامي؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسها إلا وسعها}.
ويتفرع على هذا أن يختلف الناس فيما يلزمون به؛ فالقادر على القيام في الفريضة يلزمه القيام؛ والعاجز عن القيام يصلي قاعداً؛ والعاجز عن القعود يصلي على جنب؛ وكذلك القادر على الجهاد ببدنه يلزمه الجهاد ببدنه إذا كان الجهاد فرضاً؛ والعاجز لا يلزمه؛ وكذلك القادر على الحج ببدنه وماله يلزمه أداء الحج ببدنه، والعاجز عنه ببدنه عجزاً لا يرجى زواله القادر بماله يلزمه أن ينيب من يحج عنه؛ والعاجز بماله وبدنه لا يلزمه الحج.
5 - ومن فوائد الآية: أن للإنسان طاقة محدودة؛ لقوله تعالى: {إلا وسعها}؛ فالإنسان له طاقة محدودة في كل شيء: في العلم، والفهم، والحفظ، فيكلف بحسب طاقته.
6 - ومنها: أن للإنسان ما كسب دون أن ينقص منه شيء، كما قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112].
7 - ومنها: أن الأعمال الصالحة كسب؛ وأن الأعمال السيئة غُرْم؛ وذلك مأخوذ من قوله تعالى: {لها}، ومن قوله تعالى: {عليها}؛ فإن «على» ظاهرة في أنها غُرم؛ واللام ظاهرة في أنها كسب.
8 - ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق، حيث علمهم دعاءً يدعونه به، واستجاب لهم إياه في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
9 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل في الدعاء بالوصف المناسب، مثل الربوبية - التي بها الخلق، والتدبير؛ ولهذا كان أكثر الأدعية في القرآن مصدرة بوصف الربوبية، مثل: «ربنا»، ومثل: «ربِّ».