الله لكن العيب عيب المستدل؛ فالأدلة واضحة كافية؛ لكن المستدل قد تخفى عليه الأحكام للأسباب التي ذكرناها، وغيرها.
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي غلط من قال: «إن النصوص لم تستوعب جميع الأحكام، وأننا محتاجون إلى العقول في الأحكام»؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {يبينها لقوم يعلمون}؛ فالنصوص كافية من كل ناحية.
12 - ومن فوائد الآية: أن كل ما خالف شريعة الله فليس من أحكام الله؛ لقوله تعالى: {يبينها}.
13 - ومنها: أن الخلع ليس بطلاق؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]، ثم قال تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]، ثم قال تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له} الآية؛ ولو كان الخلع طلاقاً لكان قوله تعالى: {فإن طلقها} هي الطلقة الرابعة؛ وهذا خلاف إجماع المسلمين؛ لأن المرأة تبين بالطلاق الثلاث بإجماعهم؛ وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخلع فسخ بأي لفظ كان - ولو بلفظ الطلاق -، وقال: إن هذا هو ظاهر الآية؛ لأنه تعالى قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت}؛ ولم يذكر صيغة معينة؛ لأنه إنما يعتبر في العقود بمعانيها لا بألفاظها؛ فما دام هذا الطلاق الذي وقع من الزوج إنما وقع بفداء من المرأة افتدت نفسها به - فهذا لا يمكن أن نعده طلاقاً ولو وقع بلفظ الطلاق؛ وما ذكره رحمه الله فإنه منظور فيه إلى المعنى؛ وما قاله غيره - من أنه إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقاً - فقد نظر فيه إلى اللفظ؛ ولا ريب أن من تأمل الشريعة وجد أنها تعتني بالمعنى أكثر من الاعتناء باللفظ؛ أما الألفاظ فهي قوالب للمعاني؛ وأنت إذا ألبست المرأة ثوب رجل لا تكون رجلاً؛ كما أنك إذا ألبست رجلاً ثوب امرأة لم يكن امرأة؛ فالألفاظ عبارة عن قوالب تدل على ما وراءها؛ فإذا صار المعنى هو التخلص من الزوج بهذا الفداء فكيف يحسب طلاقاً؟ !
14 - ومن فوائد الآية: تعظيم شأن النكاح بأن الله ذكر له حدوداً في عقده، وفي حله؛ لأنه يترتب عليه مسائل كثيرة من المحرمية، والنسب، والميراث، وغير ذلك - كحقوق الزوجية -؛ ولهذا اشترط فيه أن يكون بِوَلي؛ فالمرأة تستطيع أن تبيع كل مالها؛ لكن لا تستطيع أن تزوج نفسها، كما اشترط فيه الإشهاد على رأي كثير من أهل العلم؛ وكل العقود لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً اشترط فيه الإعلان على رأي بعض أهل العلم؛ والعقود الأخرى لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً أنه لا يصلح العقد في بعض الأحوال، والأزمان؛ وهذا يشاركه فيه بعض العقود؛ وكل ذلك من باب الأهمية في هذا العقد العظيم الذي تترتب عليه هذه الأمور الكبيرة.
القرآن
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} [البقرة: 231]
التفسير:
وإذا طَلَّقتم النساء فقاربن انتهاء عدتهن، فراجعوهن، ونيتكم القيام بحقوقهن على الوجه المستحسن شرعًا وعرفًا، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن. واحذروا أن تكون مراجعتهن بقصد الإضرار بهن لأجل الاعتداء على حقوقهن. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه باستحقاقه العقوبة، ولا تتخذوا آيات الله وأحكامه لعبًا ولهوًا. واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وتفصيل الأحكام. واذكروا ما أنزل الله عليكم من القرآن والسنة، واشكروا له سبحانه على هذه النعم الجليلة، يُذكِّركم الله بهذا، ويخوفكم من المخالفة، فخافوا الله وراقبوه، واعلموا أن الله عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، وسيجازي كلا بما يستحق.
في سبب نزول الآية، قال ابن عباس: " كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية " (?).
قال ابن كثير: "هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح" (?).
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231]، " أي إِذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً" (?).
والخطاب هنا لعامة الناس؛ أي إذا طلق الأزواج نساءهم (?).
قال القاسمي: " أي: طلاقا رجعيا" (?).
قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231]، أي" أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها" (?).
قال الصابوني: "وقاربن انقضاء العدة" (?).
قال القرطبي: " معنى {بَلَغْنَ} قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى" (?).
قال الشوكاني: " البلوغ إلى الشئ، معناه الحقيقي الوصول إليه ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازا لعلاقة مع قرينة كما هنا فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأن المرأة إذا قد بلغت آخر جزء من مدة العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للأنقضاء فقد خرجت من العدة ولم يبق للزوج عليها سبيل" (?).
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، " أي: فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى" (?).
قال القرطبي: " الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر" (?).
قوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، أي: " أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل العدّة عليهن" (?).