القول الثالث (?): استواء الأمرين الفطر والصوم وإلى هذا ذهب بعض العلماء (?).
وهذا يقتضي أن يكون لهم في المسن هذه الأقوال الثلاثة بجامع أن الفطر في الحالات الثلاثة رخصة، وبجامع وجود المشقة فيهما كما سبق بيانه.
ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو القول الأول القائل بأن الفطر أفضل لأنه الأيسر للمسن حال تحقق المشقة نظراً لقواعد الشريعة العامة ومقاصدها في التيسير ورفع الحرج وإذا كانت المشقة يتحملها المسن ولا تضره فالصيام في حقه أفضل لأدلة القول الثاني.
وتجدر الإشارة بأن المفتي في مسألةٍ ما، تستدعي مزيد خبرة واختصاص، لا علاقة بها بالعلم الشرعي في الغالب، وإنما بالعلم التجريبي، أو الفني، أو المهني، ونحو ذلك، هو بمثابة القاضي في الأحكام، يلزمه الرجوع للخبراء، واستشارة أهل الفن والمعرفة.
قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، فلا يخبر المرء بحقيقة الأمر، وبواطنه وغوامضه، مثل من هو عالم بدقائقه، بصير بتفاصيله، ومن كانت هذه حاله وجب الرجوع إليه في ذلك، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما هو مقرر في الأصول.
قال الماوردي: "يرجع الحاكم (?) في التقويم (?) إلى غيره؛ لأن لكل جنسٍ ونوعٍ: أهل خبرةٍ، وهم أعلم بقيمته من غيرهم" (?).
وعقد ابن فرحون في تبصرة الحكام باباً في القضاء بقول أهل المعرفة، وقال: "ويجب الرجوع إلى قول أهل البصر والمعرفة" (?)، وتبعه على ذلك الطرابلسي الحنفي في معين الحكام (?).
ومما يشهد لذلك في السنة؛ اعتبار قول القائف لخبرته وعلمه بهذا الفن.
يقول ابن القيم معلقاً على الاستناد إلى القافة: "والقياس وأصول الشريعة تشهد للقافة؛ لأن القول بها حكمٌ يستند إلى درْك أمورٍ خفية وظاهرة، توجب للنفس سكوناً؛ فوجب اعتباره، كنقد الناقد، وتقويم المقوّم" (?).
فتبين مما تقدم أن المفتي في بعض المسائل، لا يستطيع أن يحرر فتوىً، أو يصدر حكماً شرعياً، بدون تصور المسألة، وإفادة أهل الاختصاص له في ذلك.