وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم - على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره: {كُتب عليكم القصَاص} ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا" (?).
وأجمع المفسرون على نسخ قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى} [البقرة: 178]، واختلفوا في ناسخها على أقوال (?):
أحدها: قال العراقيون وجماعة: ناسخها الآية التي في المائدة وهي قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية فإن قيل هذا كتب على بني إسرائيل كيف يلزمنا حكمه فالجواب على ذلك أن آخر الآية ألزمنا ذلك وهو قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.
الثاني: وقال الحجازيون وجماعة: إن ناسخها الآية التي في بني إسرائيل وهي قوله تعالى {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} وقتل المسلم بالكافر إسراف وكذلك قتل الحر بالعبد لا يجوز عند جماعة من الناس.
الثالث: وقال العراقيون يجوز، واحتجوا بحديث ابن البيلماني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل مسلما بكافر معاهد وقال: "أنا أحق من وفي بعهده" (?)، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
قال الحافظ ابن حجر: " والآية المذكورة أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص (?)، وهو قول الجمهور (?) " (?).
والأظهر هو قول الجمهور، ويمكن أن يجاب عن استدلال الكوفيين بآية المائدة بالنسبة لقتل الحر بالعبد بأجوبة منها:
أولا: أن آية المائدة، حكاية لشريعة بني إسرائيل لقوله في أولها {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} بخلاف هذه الآية-أي: آية البقرة-فإنها خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وشريعة من قبلنا إنما تلزمنا إذا لم يثبت في شرعنا ما يخالفها، وهنا قد ثبت المخالف.
ثالنيا: لو ثبت أن الآيتين تشريع لنا فإن آية البقرة مفسرة لما أبهم في آية المائدة، أو تكون آية المائدة مطلقة وآية البقرة مقيدة والمطلق يحمل على المقيد. أما بالنسبة لاستدلالهم بها على قتل المسلم بالكافر فيجاب عن