قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماماً، ولا يجد محق عنها معدلاٌ، ولا ظالم عن حدودها محيصاٌ، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك1، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاٌ أحل حراماٌ، أو حرم حلالاٌ. لا يمنعنك قضاءٌ قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديمٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليها فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، ومجرباً عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق ليعظم2 الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.