بِقُرْطُبَةَ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَ الْبَرْبَرِ أَقَلَّ مِنْهَا بِالْبَلَدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ خَرَّبُوا الْبِلَادَ، وَجَلَا أَهْلُ قُرْطُبَةَ، وَقَتَلَ الْمُؤَيَّدُ كُلَّ مَنْ مَالَ إِلَى سُلَيْمَانَ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَرْبَرَ وَسُلَيْمَانَ لَازَمُوا الْحِصَارَ وَالْقِتَالَ لِأَهْلِ قُرْطُبَةَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَفِي مُدَّةِ هَذَا الْحِصَارِ ظَهَرَ بِطُلَيْطِلَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمُ الْمُؤَيَّدُ جَيْشًا، فَحَصَرُوهُمْ، فَعَادُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَأُخِذَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَسِيرًا، وَقُتِلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ قُرْطُبَةَ قَاتَلُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْبَرْبَرَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَرِقَ فِي النَّهْرِ مِثْلُهُمْ، فَرَحَلُوا عَنْهَا، وَسَارُوا إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ فَحَصَرُوهَا، فَأَرْسَلَ الْمُؤَيَّدُ إِلَيْهَا جَيْشًا فَحَمَاهَا وَمَنَعَ الْبَرْبَرَ عَنْهَا، وَرَاسَلَ سُلَيْمَانُ نَائِبَ الْمُؤَيَّدِ بِسَرَقُسْطَةَ وَغَيْرِهَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَأَطَاعُوهُ، فَسَارَ الْبَرْبَرُ وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِشْبِيلِيَّةَ إِلَى قَلْعَةِ رَبَاحٍ فَمَلَكُوهَا وَغَنِمُوا مَا فِيهَا، وَاتَّخَذُوهَا دَارًا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى قُرْطُبَةَ فَحَصَرُوهَا، وَقَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا وَعَسَاكِرِهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهَا، وَمَلَكَهَا سُلَيْمَانُ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا فِي الطُّرُقِ، وَنَهَبُوا الْبَلَدَ وَأَحْرَقُوهُ، فَلَمْ تُحْصَ الْقَتْلَى لِكَثْرَتِهِمْ.
وَنَزَلَ الْبَرْبَرُ فِي الدُّورِ الَّتِي لَمْ تُحْرَقْ، فَنَالَ أَهْلُ قُرْطُبَةَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَأُخْرِجَ الْمُؤَيَّدُ مِنَ الْقَصْرِ، وَحُمِلَ إِلَى سُلَيْمَانَ، وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ قُرْطُبَةَ مُنْتَصَفَ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَبُويِعَ لَهُ بِهَا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُؤَيَّدَ جَرَى لَهُ مَعَ سُلَيْمَانَ أَقَاصِيصُ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى شَرْقِ الْأَنْدَلُسِ (مِنْ عِنْدِهِ) . وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ فِي هَذَا الْحَصْرِ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْفَرَضِيِّ مَظْلُومًا رَحِمَهُ اللَّهُ.