وَرَأَى الصُّورَةَ مِنْ قَرَاطِيسَ، عَلِمَ مَا أُرِيدُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمَا، وَأَخَذَ مِنْ عِيسَى ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا كَثِيرًا.

وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَمِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ شَاعِرٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ، فَهَجَا يَعْقُوبَ بْنَ كِلِّسٍ وَزِيرَ الْعَزِيزِ وَكَاتِبَ الْإِنْشَاءِ مِنْ جِهَتِهِ أَبَا نَصْرٍ عَبْدَ اللَّهِ الْحُسَيْنَ الْقَيْرَوَانِيَّ، فَقَالَ:

قُلْ لِأَبِي نَصْرٍ صَاحِبِ الْقَصْرِ ... وَالْمُتَأَتِّي لِنَقْضِ ذَا الْأَمْرِ

انْقُضْ عُرَى الْمُلْكِ لِلْوَزِيرِ تَفُزْ ... مِنْهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ

وَأَعْطِ، وَامْنَعْ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا ... فَصَاحِبُ الْقَصْرِ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ

وَلَيْسَ يَدْرِي مَاذَا يُرَادُ بِهِ ... وَهُوَ إِذَا مَا دَرَى، فَمَا يَدْرِي

فَشَكَاهُ ابْنُ كِلِّسٍ إِلَى الْعَزِيزِ، وَأَنْشَدَهُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَهُ: هَذَا شَيْءٌ اشْتَرَكْنَا فِيهِ فِي الْهِجَاءِ فَشَارِكْنِي فِي الْعَفْوِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الشَّاعِرُ أَيْضًا وَعَرَّضَ بِالْفَضْلِ الْقَائِدِ:

تَنَصَّرْ، فَالتَّنَصُّرُ دِينُ حَقٍّ ... عَلَيْهِ زَمَانُنَا هَذَا يَدُلُّ

وَقُلْ بِثَلَاثَةٍ عَزُّوا وَجَلُّوا ... وَعَطِّلْ مَا سِوَاهُمْ فَهُوَ عُطْلُ

فَيَعْقُوبُ الْوَزِيرُ أَبٌ، وَهَذَا ... الْعَزِيزُ ابْنٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ فَضْلُ

فَشَكَاهُ أَيْضًا إِلَى الْعَزِيزِ، فَامْتَعَضَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اعْفُ عَنْهُ فَعَفَا عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَ الْوَزِيرُ عَلَى الْعَزِيزِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِلْعَفْوِ عَنْ هَذَا مَعْنًى، وَفِيهِ غَضٌّ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَنَقْضٌ لِهَيْبَةِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَكَ وَذَكَرَنِي وَذَكَرَ ابْنَ زَبَارِجَ نَدِيمَكَ، وَسَبَّكَ بِقَوْلِهِ:

زَبَارِجِيٌّ نَدِيمٌ وَكِلِّسِيٌّ وَزِيرُ ... نَعَمْ عَلَى قَدْرِ الْكَلْبِ يَصْلُحُ السَّاجُورُ

فَغَضِبَ الْعَزِيزُ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ (لِوَقْتِهِ، ثُمَّ بَدَا لِلْعَزِيزِ إِطْلَاقُهُ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَانَ لِلْوَزِيرِ عَيْنٌ فِي الْقَصْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015