وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَثَرًا، وَكَانَ صَبِيًّا لَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ، وَكَانَ عُمُرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى السَّوَادِ، فَغَنِمُوا وَوَجَدُوا فِي سَوَادِهِ بَرَانِسَ لُبُودٍ عَلَيْهَا أَذْنَابُ الثَّعَالِبِ، وَوَجَدُوا قُيُودًا وَأَغْلَالًا، فَسَأَلُوا عَنْهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ: إِنَّ هَذِهِ أُعِدَّتْ لَكُمْ لِتُجْعَلَ عَلَيْكُمْ، وَيُطَافَ بِكُمْ فِي الْبِلَادِ، فَأَشَارَ أَصْحَابُ ابْنِ بُوَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ (مِثْلُ ذَلِكَ) ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إِنَّهُ بَغْيٌ، وَلُؤْمُ ظَفْرٍ، وَلَقَدْ لَقِيَ يَاقُوتٌ بَغْيَهُ.
ثُمَّ أَحْسَنَ إِلَى الْأَسَارَى وَأَطْلَقَهُمْ، وَقَالَ: هَذِهِ نِعْمَةٌ، وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ يَقْتَضِي الْمَزِيدَ، وَخَيَّرَ الْأَسَارَى بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَاللُّحُوقِ بِيَاقُوتٍ، فَاخْتَارُوا الْمُقَامَ عِنْدَهُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.
وَسَارَ مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ حَتَّى نَزَلَ بِشِيرَازَ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَبَثَّ الْعَدْلَ، وَأَقَامَ لَهُمْ شِحْنَةً يَمْنَعُ مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَطَلَبَ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَكَادَ يَنْحَلُّ أَمْرُهُ، فَقَعَدَ فِي غُرْفَةٍ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ بِشِيرَازَ يُفَكِّرُ فِي أَمْرِهِ، فَرَأَى حَيَّةً خَرَجَتْ مِنْ مَوْضِعٍ فِي سَقْفِ تِلْكَ الْغُرْفَةِ، وَدَخَلَتْ فِي ثُقْبٍ هُنَاكَ، فَخَافَ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْفَرَّاشِينَ، فَفَتَحُوا الْمَوْضِعَ، فَرَأَوْا وَرَاءَهُ بَابًا، فَدَخَلُوهُ إِلَى غُرْفَةٍ أُخْرَى، وَفِيهَا عَشَرَةُ صَنَادِيقَ مَمْلُوءَةٌ مَالًا وَمَصُوغًا، وَكَانَ فِيهَا مَا قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا، وَثَبَّتَ مُلْكَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ.
وَحُكِيَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَصِّلَ ثِيَابًا، فَدَلُّوهُ عَلَى خَيَّاطٍ كَانَ لِيَاقُوتٍ، فَأَحْضَرَهُ، فَحَضَرَ خَائِفًا، وَكَانَ أَصَمَّ، فَقَالَ لَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ: لَا تَخَفْ، فَإِنَّمَا أَحْضَرْنَاكَ لِتُفَصِّلَ ثِيَابًا، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا قَالَ، فَابْتَدَأَ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الصَّنَادِيقَ الَّتِي عِنْدَهُ لِيَاقُوتٍ مَا فَتَحَهَا، فَتَعَجَّبَ الْأَمِيرُ مِنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهَا، فَأَحْضَرَ ثَمَانِيَةَ صَنَادِيقَ فِيهَا مَالٌ وَثِيَابٌ قِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَدَائِعِ يَاقُوتٍ وَذَخَائِرِ يَعْقُوبَ وَعَمْرٍو ابْنَيِ اللَّيْثِ جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ، فَامْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ وَثَبَتَ مُلْكُهُ.
فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ شِيرَازَ وَفَارِسَ، كَتَبَ إِلَى الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَكَانَتْ قَدْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِلَى وَزِيرِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يُعَرِّفُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ،