وَانْطَلَقَ إِلَى الْمَغَارَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ يَسْتَعْذِبَانِ مِنْهُ ثُمَّ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي لَقِيَهَا فِيهِ جِبْرِيلُ نَفِدَ مَاؤُهَا فَقَالَتْ لِيُوسُفَ لِيَذْهَبَ مَعَهَا إِلَى الْمَاءِ، فَقَالَ: عِنْدِي مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِينِي إِلَى غَدٍ، فَأَخَذَتْ قُلَّتَهَا وَانْطَلَقَتْ وَحْدَهَا حَتَّى دَخَلَتِ الْمَغَارَةَ، فَوَجَدَتْ جَبْرَائِيلَ قَدْ مَثَّلَهُ اللَّهُ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، فَقَالَ لَهَا: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] أَيْ مُطِيعًا لِلَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَتَحْسَبُهُ رَجُلًا، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 19 - 20]- أَيْ زَانِيَةً - {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم: 21] ، إِلَى قَوْلِهِ {أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21]
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ، وَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا وَقَدْ حَمَلَتْ بِالْمَسِيحِ، وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا وَعَادَتْ، وَكَانَ لَا يُعْلَمُ فِي أَهْلِ زَمَانِهَا أَعْبَدُ مِنْهَا وَمِنِ ابْنِ عَمِّهَا يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَكَانَ مَعَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ حَمْلَهَا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهَا اسْتَعْظَمَهُ وَلَمْ يَدْرِ عَلَى مَاذَا يَضَعُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ يَتَّهِمُهَا ذَكَرَ صَلَاحَهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَغِبْ عَنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَإِذَا أَرَادَ يُبَرِّئُهَا رَأَى الَّذِي بِهَا، فَلَمَّا اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَلَّمَهَا فَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ لَهَا أَنْ قَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ أَمْرِكِ شَيْءٌ قَدْ حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أُمِيتَهُ وَأَكْتُمَهُ فَغَلَبَنِي. فَقَالَتْ: قُلْ قَوْلًا جَمِيلًا. فَقَالَ: حَدِّثِينِي هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بَذْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ يَنْبُتُ شَجَرٌ بِغَيْرِ غَيْثٍ يُصِيبُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ بِغَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ الزَّرْعَ يَوْمَ خَلَقَهُ بِغَيْرِ بَذْرٍ! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّجَرَ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ! وَأَنَّهُ جَعَلَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْغَيْثَ حَيَاةً لِلشَّجَرِ بَعْدَمَا خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ! أَوَ تَقُولُ لَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَى أَنْ يُنْبِتَ حَتَّى يَسْتَعِينَ بِالْبَذْرِ وَالْمَطَرِ! قَالَ يُوسُفُ: لَا أَقُولُ هَكَذَا وَلَكِنِّي أَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، إِنَّمَا يَقُولُ لِذَلِكَ كُنْ فَيَكُونُ. قَالَتْ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى! قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الَّذِي بِهَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَسْأَلَهَا عَنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ كِتْمَانِهَا لَهُ.