وَاتَّبَعَ إِبْرَاهِيمُ رَأْيَهُ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَاخَمْرَى، وَهِيَ مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، (مُقَابِلَ عِيسَى بْنِ مُوسَى) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّكَ قَدْ أَصْحَرْتَ وَمِثْلُكَ أَنْفِسُ بِهِ عَنِ الْمَوْتِ، فَخَنْدِقْ عَلَى نَفْسِكَ حَتَّى لَا تُؤْتَى إِلَّا مِنْ مَأْتًى وَاحِدٍ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَقَدْ أَغْرَى أَبُو جَعْفَرٍ عَسْكَرَهُ، فَتَخَفَّفْ فِي طَائِفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَأْخُذَ بِقَفَاهُ.
فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: نُخَنْدِقُ عَلَى أَنْفُسِنَا وَنَحْنُ الظَّاهِرُونَ عَلَيْهِمْ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ.
قَالَ: فَنَأْتِي أَبَا جَعْفَرٍ. قَالُوا: وَلِمَ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا مَتَى أَرَدْنَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلرَّسُولِ: أَتَسْمَعُ؟ فَارْجِعْ رَاشِدًا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ تَصَافُّوا، فَصَفَّ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ صَفًّا وَاحِدًا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ كَرَادِيسَ، فَإِذَا انْهَزَمَ كُرْدُوسٌ ثَبَتَ كُرْدُوسٌ، فَإِنَّ الصَّفَّ إِذَا انْهَزَمَ بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ. فَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا نَصُفُّ إِلَّا صَفَّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] الْآيَةَ.
فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْهَزَمَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ مَعَهُ، فَعَرَضَ لَهُمْ عِيسَى يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ وَالطَّاعَةَ فَلَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ. فَأَقْبَلَ حُمَيْدٌ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اللَّهَ اللَّهَ وَالطَّاعَةَ! فَقَالَ: لَا طَاعَةَ فِي الْهَزِيمَةِ! وَمَرَّ النَّاسُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ عِيسَى إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ.
فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْ مَكَانِكَ حَتَّى تَئُوبَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَتَكُرَّ بِهِمْ. فَقَالَ: لَا أَزُولُ عَنْ مَكَانِي هَذَا أَبَدًا حَتَّى أُقْتَلَ أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ، وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُ أَهْلُ بَيْتِي إِلَى وَجْهِي أَبَدًا وَقَدِ انْهَزَمْتُ عَنْ عَدُوِّهِمْ! وَجَعَلَ يَقُولُ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ: أَقْرِئْ أَهْلَ بَيْتِي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ لَمْ أَجِدْ فِدًى أَفْدِيكُمْ بِهِ أَعَزَّ مِنْ نَفْسِي، وَقَدْ بَذَلْتُهَا دُونَكُمْ!
فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِذْ أَتَى جَعْفَرٌ، وَمُحَمَّدٌ ابْنَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ ظُهُورِ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَشْعُرُ بَاقِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى نَظَرَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى الْقِتَالَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَعَطَفُوا نَحْوَهُ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ يَتْبَعُونَهُمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَوْلَا جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ لَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ.
وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ لِلْمَنْصُورِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَقِيَهُمْ نَهْرٌ فِي طَرِيقِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُثُوبِ وَلَمْ يَجِدُوا