وَحُبِسَ مُقَيَّدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ السُّودَانِ مَا كَانَ خَرَجَ فِي حَدِيدِهِ مِنَ الْحَبْسِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَأَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَهَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ! فَوَاللَّهِ إِنْ ثَبَتَتْ عَلَيْنَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَعْلَةِ الْأُولَى، إِنَّهُ لَهَلَاكُ الْبَلَدِ وَأَهْلِهِ وَالْعَبِيدِ فِي السُّوقِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَاذْهَبُوا إِلَيْهِمْ فَكَلِّمُوهُمْ.
فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِمَوَالِينَا، وَاللَّهِ مَا قُمْنَا إِلَّا أَنَفَةً مِمَّا عُمِلَ بِكُمْ، فَأَمْرُنَا إِلَيْكُمْ، فَأَقْبَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَخَطَبَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، فَتَرَاجَعُوا.
وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ جُمُعَةً، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجِبِ الْمُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَى الصَّلَاةِ بِهِمْ، فَقَدِمَ الْأَصْبَغُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا وَقَفَ لِلصَّلَاةِ وَاسْتَوَتِ الصُّفُوفُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أُصَلِّي بِالنَّاسِ عَلَى طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا.
ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ لَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: إِنَّكُمْ قَدْ كَانَ مِنْكُمْ بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ وَنَهَبْتُمْ طَعَامَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَبْقَيَنَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا رَدَّهُ، فَرَدُّوهُ، وَرَجَعَ ابْنُ الرَّبِيعِ مِنْ بَطْنِ نَخْلٍ فَقَطَعَ يَدَ وَثِيقٍ وَيَعْقِلَ وَغَيْرِهِمَا.
ذِكْرُ بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ
فِيهَا ابْتَدَأَ الْمَنْصُورُ فِي بِنَاءِ مَدِينَةِ بَغْدَاذَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ ابْتَنَى الْهَاشِمِيَّةَ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ، فَلَمَّا ثَارَتِ الرَّاوِنْدِيَّةُ فِيهَا كَرِهَ سُكَّانَهَا لِذَلِكَ وَلِجِوَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْمَنُ أَهْلَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا جُنْدَهُ. فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ يَرْتَادُ لَهُ مَوْضِعًا يَسْكُنُهُ هُوَ وَجُنْدُهُ، فَانْحَدَرَ إِلَى جَرْجَرَايَا، ثُمَّ أَصْعَدَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ نَحْوَ الْجَبَلِ فِي طَلَبِ مَنْزِلٍ يُبْنَى بِهِ.
وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ بَعْضُ جُنْدِهِ بِالْمَدَائِنِ لِرَمَدٍ لَحِقَهُ، فَسَأَلَهُ الطَّبِيبُ الَّذِي يُعَالِجُهُ عَنْ سَبَبِ حَرَكَةِ الْمَنْصُورِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابٍ عِنْدَنَا أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى مِقْلَاصًا يَبْنِي مَدِينَةً بَيْنَ دِجْلَةَ وَالصَّرَاةِ تُدْعَى الزَّوْرَاءَ، فَإِذَا أَسَّسَهَا وَبَنَى بَعْضَهَا أَتَاهُ فَتْقٌ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَطَعَ بِنَاءَهَا وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْفَتْقَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَتْقٌ مِنَ الْبَصْرَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْبَثُ الْفَتْقَانِ أَنْ يَلْتَئِمَا، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى بِنَائِهَا فَيُتِمَّهُ، ثُمَّ يُعَمَّرُ عُمُرًا طَوِيلًا، وَيَبْقَى الْمُلْكُ فِي عَقِبِهِ.
فَقَدِمَ ذَلِكَ الْجُنْدِيُّ إِلَى عَسْكَرِ الْمَنْصُورِ وَهُوَ بِنَوَاحِي الْجَبَلِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَرَجَعَ