إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ وَاللَّهِ مَرَدْنَا عَلَيْكَ، وَحَرَّضْنَا وَجَهِدْنَا، فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَأَظْفَرَكَ بِنَا، فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَتْ إِلَيْهِ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ، وَبَعْدُ فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ قَوْلًا مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا، ثُمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ، وَقَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ، كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا؟ فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ، وَاسْتَوْعَرْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ، وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خَلَفًا. قَالَ: انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ. فَانْصَرَفْتُ.
ذِكْرُ خَلْعِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بِالرَّيِّ وَمَا كَانَ مِنْهُ
لَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَحِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ بِعُمَرَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الرَّيِّ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِالرَّيِّ أَرَادُوا أَنْ يَحْظَوْا عِنْدَ الْحَجَّاجِ بِأَمْرٍ يَمْحُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَثْرَةَ الْجَمَاجِمِ، فَأَشَارُوا عَلَى عُمَرَ بِخَلْعِ الْحَجَّاجِ وَقُتَيْبَةَ، فَامْتَنَعَ، فَوَضَعُوا عَلَيْهِ أَبَاهُ أَبَا الصَّلْتِ، وَكَانَ بِهِ بَارًّا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِذَا سَارَ هَؤُلَاءِ تَحْتَ لِوَائِكَ لَا أُبَالِي أَنْ تُقْتَلَ غَدًا. فَفَعَلَ.
فَلَمَّا قَارَبَ قُتَيْبَةُ الرَّيَّ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَاسْتَعَدَّ لِقِتَالِهِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَغَدَرَ أَصْحَابُ عُمَرَ بِهِ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ تَمِيمٍ، فَانْهَزَمَ وَلَحِقَ بِطَبَرِسْتَانَ، فَآوَاهُ الْأَصْبَهْبَذُ وَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِيهِ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِخَلْعِ الْحَجَّاجِ وَقُتَيْبَةَ فَأَطَعْتُكَ، وَكَانَ خِلَافَ رَأْيِي فَلَمْ أَحْمِدْ رَأْيَكَ، وَقَدْ نَزَلْنَا بِهَذَا الْعِلْجِ الْأَصْبَهْبَذِ فَدَعْنِي حَتَّى أَثِبَ عَلَيْهِ، فَأَقْتُلَهُ وَأَجْلِسَ مَمْلَكَتَهُ، فَقَدْ عَلِمَتِ الْأَعَاجِمُ أَنِّي أَشْرَفُ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُوهُ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا لِرَجُلٍ آوَانَا وَنَحْنُ خَائِفُونَ، وَأَكْرَمَنَا وَأَنْزَلَنَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَعْلَمُ وَسَتَرَى.
وَدَخَلَ قُتَيْبَةُ الرَّيَّ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِخَبَرِ عُمَرَ وَانْهِزَامِهِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْأَصْبَهْبَذِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ أَوْ بِرُءُوسِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْكَ الذِّمَّةُ. فَصَنَعَ لَهُمُ الْأَصْبَهْبَذُ طَعَامًا وَأَحْضَرَهُمَا، فَقَتَلَ عُمَرَ وَبَعَثَ أَبَاهُ أَسِيرًا، وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُمَا وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمَا.