بِالْجَمَاجِمِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْهَزِيمَةِ اقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَاسْتَظْهَرَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ، وَاسْتَعْلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ آمِنُونَ أَنْ يُهْزَمُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ، وَهُوَ فِي مَيْمَنَةِ الْحَجَّاجِ، عَلَى الْأَبْرَدِ بْنِ قُرَّةَ التَّمِيمِيِّ، وَهُوَ عَلَى مَيْسَرَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَانْهَزَمَ الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ يُذْكَرُ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ صُولِحَ عَلَى أَنْ يَنْهَزِمَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ تَقَوَّضَتِ الصُّفُوفُ مِنْ نَحْوِهِ وَرَكِبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَصَعِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمِنْبَرُ يُنَادِي النَّاسَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَثَبَتَ حَتَّى دَنَا مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَاتَلَ مَنْ مَعَهُ، وَدَخَلَ أَهْلُ الشَّامِ الْعَسْكَرَ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْأَزْدِيُّ فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُؤْسَرَ، وَلَعَلَّكَ إِنِ انْصَرَفْتَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُمْ جَمْعًا يُهْلِكُهُمُ اللَّهُ بِهِ.
فَنَزَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَعَادَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الشَّامِ، وَأَخَذَ الْحَجَّاجُ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ يُبَايِعُ أَحَدًا إِلَّا قَالَ لَهُ: اشْهَدْ أَنَّكَ كَفَرْتَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، بَايَعَهُ، وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ خَشْعَمٍ كَانَ مُعْتَزِلًا لِلنَّاسِ جَمِيعًا، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَأَخْبَرَهُ بِاعْتِزَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُتَرَبِّصٌ، أَتَشْهَدُ أَنَّكَ كَافِرٌ؟ قَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ أَنَا! أَعْبُدُ اللَّهَ ثَمَانِينَ سَنَةً ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! قَالَ: إِذًا أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَإِنْ قَتَلْتَنِي. فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ إِلَّا رَحِمَهُ.
ثُمَّ دَعَا بِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُقْتَصُّ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ؟ (قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ مِنْ أَنْ أَجِدَ) عَلَيْكَ سَبِيلًا. قَالَ: عَلَى أَيِّنَا أَنْتَ أَشَدُّ غَضَبًا، عَلَيْهِ حِينَ أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ عَلَيَّ حِينَ عَفَوْتُ عَنْهُ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ مِنْ ثَقِيفٍ، (لَا تَصْرِفْ عَلَيَّ أَنْيَابَكَ، وَلَا تُكَشِّرْ) عَلَيَّ كَالذِّئْبِ، وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي إِلَّا ظِمْءَ الْحِمَارِ، اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ، فَإِنَّ الْمَوْعِدَ اللَّهُ، وَبَعْدَ الْقَتْلِ الْحِسَابَ. قَالَ الْحَجَّاجُ: فَإِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْكَ. قَالَ: ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ إِلَيْكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَكَانَ خِصِّيصًا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُتِيَ بِآخَرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَرَى رَجُلًا مَا أَظُنُّهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتُخَادِعَنِي عَنْ نَفْسِي؟ أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ. فَضَحِكَ مِنْهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.