إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ، وَإِنَّ هَذَا فِينَا مِثْلَ التَّابُوتِ. فَكَشَفُوا عَنْهُ، وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَكَبَّرُوا.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ أَرْسَلَ الْمُخْتَارُ الْجُنْدَ لِقِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ، وَخَرَجَ بِالْكُرْسِيِّ عَلَى بَغْلٍ وَقَدْ غُشِّيَ، فَقُتِلَ أَهْلُ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ فِتْنَةً، فَارْتَفَعُوا حَتَّى تَعَاطَوُا الْكُفْرَ. فَنَدِمْتُ عَلَى مَا صَنَعْتُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَعِيبُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لِآلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ جَعْدَةَ أُمُّ هَانِئٍ أُخْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبَوَيْهِ: ايتُونِي بِكُرْسِيِّ عَلِيٍّ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا هُوَ عِنْدَنَا. فَقَالَ: لَتَكُونُنَّ حَمْقَى، اذْهَبُوا فَأْتُونِي بِهِ. قَالَ: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ بِكُرْسِيٍّ إِلَّا قَالَ: هَذَا هُوَ، وَقَبِلَهُ مِنْهُمْ. فَأَتَوْهُ بِكُرْسِيٍّ وَقَبَضَهُ مِنْهُمْ، وَخَرَجَتْ شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَرُءُوسُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِ الْحَرِيرَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَهُ مُوسَى بنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَانَ يُلِمُّ بِالْمُخْتَارِ لِأَنَّ أُمَّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَعَتَبَ النَّاسُ عَلَى مُوسَى، فَتَرَكَهُ وَسَدَنَهُ حَوْشَبٌ الْبَرْسَمِيُّ حَتَّى هَلَكَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ، شِعْرٌ:
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ ... وَإِنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ
فَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ ... وَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ
وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ فِينَا وَإِنْ سَعَتْ ... شِبَامٌ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ
وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ مُحَمَّدٍ ... وَتَابَعْتُ وَحْيًا ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ
وَبَايَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا تَتَابَعَتْ ... عَلَيْهِ قُرَيْشٌ شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ
وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:
أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ ... أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ