الْعِلْجُ عِلْجًا آخَرَ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مَنْ شَمِرٍ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرَةَ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْكَنُودِ، فَرَأَى الْكِتَابَ وَعُنْوَانُهُ: لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ شَمِرٍ، فَقَالُوا لِلْعِلْجِ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَإِذَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، قَالَ: فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ قَالَ لِشَمِرٍ أَصْحَابُهُ: لَوِ ارْتَحَلْتَ بِنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَإِنَّا نَتَخَوَّفُ بِهَا، فَقَالَ: أَوَكُلُّ هَذَا فَزَعًا مِنَ الْكَذَّابِ؟ ! وَاللَّهِ لَا أَتَحَوَّلُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ رُعْبًا. فَإِنَّهُمْ لَنِيَامٌ إِذْ سُمِعَ وَقْعُ الْحَوَافِرِ، فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هَذَا صَوْتُ الدِّبَا. ثُمَّ اشْتَدَّ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ لِيَقُومُوا فَإِذَا بِالْخَيْلِ قَدْ أَشْرَفَتْ مِنَ التَّلِّ، فَكَبَّرُوا وَأَحَاطُوا بِالْأَبْيَاتِ، فَوَلَّى أَصْحَابُهُ هَارِبِينَ وَتَرَكُوا خُيُولَهُمْ، وَقَامَ شَمِرٌ وَقَدِ اتَّزَرَ بِبُرْدٍ، وَكَانَ أَبْرَصَ، فَظَهَرَ بَيَاضُ بَرَصِهِ مِنْ فَوْقِ الْبُرْدِ وَهُوَ يُطَاعِنُهُمْ بِالرُّمْحِ، وَقَدْ عَجَّلُوهُ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ فَارَقُوهُ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا عَنْهُ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ وَقَائِلًا يَقُولُ: قُتِلَ الْخَبِيثُ، قَتَلَهُ ابْنُ أَبِي الْكَنُودِ. وَهُوَ الَّذِي رَأَى الْكِتَابَ مَعَ الْعِلْجِ، وَأُلْقِيَتْ جُثَّتُهُ لِلْكِلَابِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ بَعْدَ أَنْ قَاتَلَنَا بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ وَأَخَذَ السَّيْفَ، فَقَاتَلَنَا بِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، شِعْرٌ:
نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلًا ... جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ الْكَاهِلَا
لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلًا ... إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا أَوْ قَاتِلَا
يُبْرِحُهُمْ ضَرْبًا وَيُرْوِي الْعَامِلَا
وَأَقْبَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْقَصْرِ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَمَعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ أَسِيرًا فَنَادَاهُ، شِعْرٌ: امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ (وَخَيْرَ مَنْ حَلَّ بِشِحْرٍ وَالْجَنَدْ)