إليك وأسندت إليك الحكم، فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم فيما وكلت إليك، وانظر فيما أسندت إليك وتول فيما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة.
فصل:
فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء، فحكماه ليحكم بينهما، جاز، لما روى أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى. وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك. واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود.
فصل:
ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر، على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الآخر في حق آخر، أو إلى أحدهما في زمن، وإلى الآخر في زمن آخر؛ لأنه نيابة عن الإمام، فكان على حسب الاستنابة. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد وزمن واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان: