الدية» ، ولما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العقل أشرف الحواس، به يتميز عن البهيمة، ويعرف حقائق المعلومات، ويدخل في التكليف، فكان أحق بإيجاب الدية، وإن نقص عقله نقصًا يعرف قدره، مثل من يجن نصف الزمان، ويفيق نصفًا، وجب من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدره، بأن صار مدهوشًا، أو يفزعه الشيء اليسير، ففيه حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب مقدر، فيصير إلى الحكومة، فإن كانت الجناية المذهبة للعقل لها أرش كالموضحة، أو أذهبت سمعه وعقله وجبت ديتهما؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية أذهبت نفعًا في غير محل الجناية، مع بقاء النفس فلم يتداخلا، كما لو أوضحه فذهب بصره، وإن شهر سيفًا على صبي، أو بالغ مضعوف، أو صاح عليه صيحة شديدة، فذهب عقله، فعليه ديته؛ لأن ذلك سبب لزوال عقله، وكذلك إن أفزعه بشيء، مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق، أو قدم إليه حية، أو أسدًا لما ذكرنا.
فصل
وفي الشفتين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» ، ولأن فيهما نفعًا كبيرًا، وجمالًا ظاهرًا، فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه، ويردان الريق، وينفخ بهما، ويمسك بهما الماء، ويتم بهما الكلام، ويستران الأسنان، وفي إحداهما نصف الدية، وعنه: في العليا ثلثها، وفي السفلى ثلثاها؛ لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأن النفع بالسفلى أعظم؛ لأنها تدور وتتحرك، وتحفظ الريق والطعام، والأول المذهب؛ لأنه قول أبي بكر الصديق وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما، وجب في إحداهما نصفها كاليدين، ولا عبرة بزيادة النفع، بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع، وإن ضربهما فأشلهما، أو تقلصتا بحيث لا ينطبقان على الأسنان، أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها، ففيهما ديتهما؛ لأنه عطل نفعهما، فأشبه ما أشل يده، وإن تقلصتا بعض التقلص، ففيهما حكومة.
فصل
وفي اللسان الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» ولأن فيه جمالًا ظاهرا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنه يقال: جمال الرجل في لسانه، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، ولأنه يبلغ به الأغراض، ويقضي به الحاجات، ويتم به العبادات، ويذوق به الطعام والشراب، ويستعين به في مضغ الطعام، وفي الكلام الدية؛ لأنه من أعظم المنافع، فإن جنى على لسانه فخرس، وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب المنفعة به، فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت، وإن ذهب بعض الكلام، وجب بقدر ما ذهب؛ لأن ما ضمن جميعه بالدية، ضمن بعضه بقدره منها، كالأصابع.