القياس (صفحة 15)

وتبين أنه إذا كان في كل واحد من أصناف المقاييس مقدمتان إحداهما كلية سالبة والأخرى موجبة، أنه قد يكون قياس منتج دائما- أعني أنه ينتج مطلوبا مفروضا وغير مفروض. أما المطلوب المفروض فمتى كانت السالبة الكلية هي الكبرى في الشكل الأول. وأما غير المفروض فمتى كانت الصغرى هي الكلية السالبة، وكذلك الحال في الشكل الثاني الذي تكون فيه الصغرى كلية والكبرى جزئية ن وفي الشكل الثالث الذي تكون الصغرى فيه سالبة. وذلك أنه إذا كان ولا شيء من جَ هو بَ وكل بَ هو اَ، فإذا عكست هاتان المقدمتان فقيل بعض اَ هو بَ ولا شيء من بَ هو جَ، فأنه ينتج بعض اَ ليس هو جَ. لكن لم تعد أمثال هذه المقاييس في المقاييس المقصودة هاهنا، إذ كان المطلوب هاهنا إنما هو القياس الذي تقع عليه الفكرة بالطبع بالإضافة الى المطلوب المحدود. فأما القياس الذي ينتج غير المطلوب، فليس تعتمده القوة الفكرية بالطبع ولا تؤلفه أصلا، لأنه مثلا إذا طلبنا هل اَ في جَ فقلنا اَ في جَ لأن اَ في بَ وبَ في جَ، كان ذلك قياسا طبيعيا موجودا في كلام الناس كثيرا، وهذا هو الشكل الأول. وكذلك إذا قلنا اَ في جَ لأن بَ في جَ وفي اَ، فهو بين أن هذا التأليف موجود لنا بالطبع، وهذا هو الشكل الثاني وهو موجود كثيرا في كلام الناس بالطبع. وكذلك إذا قلنا اَ في جَ لأن اَ وجَ في بَ، هذا أيضا قياس موجود لنا بالطبع، وهذا هو الشكل الثالث. وأما أن نقول أن اَ في جَ لأن جَ في بَ وبَ في اَ، فهو شيء لا يفعله بالطبع أحد، لأن الذي يلزم منه هو غير المطلوب، وهو أن جَ في اَ. فكأن هذا بمنزلة من قال اَ في جَ لأن اَ في بَ وبَ في دَ، وهذا شيء لا تفعله الفكرة بالطبع.

ومن هنا يبين أن الشكل الرابع- الذي يذكره جالينوس- ليس بقياس تقع عليه الفكرة بالطبع. وذلك أنه إذا طلبنا هل جَ فيها اَ فقلنا جَ فيها اَ لأن بَ في اَ وجَ في بَ، فنحن بين أحد أمرين، إما أن نلحظ اللازم عن هذا التأليف ونطرح ذلك المطلوب بالجملة- وهو أن جَ في اَ- وذلك خلاف ما طلبنا، وإما أن يكون عندما نأتي بهذا التأليف يبقى المطلوب في أذهاننا على ما كان عليه عند الطلب- وهو أن يكون الموضوع فيه موضوعا والمحمول محمولا. وذلك أن كل مطلوب واحد فالموضوع فيه موضوع بالطبع، والمحمول فيه محمول بالطبع، فإذا بقي الموضوع موضوعا عندنا في المطلوب والمحمول محمولا- وذلك موجود في أذهاننا بهذه الصفة مادام المطلوب مطلوبا- ثم أتينا بحد أوسط يكون محمولا على محمول المطلوب وموضوعا لموضوع المطلوب- على ما يرى جالينوس أن هذا شكل رابع- بالإضافة إلى المطلوب، وإلا فما هاهنا شكل رابع وإنما هاهنا شكل أول إما على المطلوب وإما على عكسه. لكن لننزل هاهنا أن هذا الشكل الرابع إنما نتصوره على هذه الجهة- أعني بالإضافة إلى المطلوب المحدود الذي الموضوع فيه موضوع بالطبع والمحمول محمول بالطبع- فإنه ليس يتصور شكل رابع إلا على هذا الوجه. فمتى طلبنا وجود شيء في شيء وأخذنا حدا أوسط فحملناه مرة على محمول المطلوب ومرة حملنا عليه موضوع المطلوب، عاد المطلوب موضوعا والموضوع مطلوبا فانعكس الطلب والقياس وأنتج العكس، وذلك في غاية الاستكراه. فهذا هو السبب في أن لم تؤلفه فكرة بالطبع على مطلوب محدود حتى يكون هاهنا قياس ينتج المطلوب المحدود بعكسين كما يراه جالينوس في الشكل الرابع على ما يقال عنه. والفرق بين هذا العكس والعكس الذي يستعمله أرسطو في رد كثير من أصناف الشكل الثاني والثالث إلى الأول أن ذلك العكس هو في تبين الإنتاج في مقاييس طبيعية، وهذا عكس في تبين الإنتاج في قياس صناعي لا طبيعي. وإنما لم يلتف أرسطو إلى المقاييس الصناعية لأنها غير محاكية للوجود وتكاد أن تكون غير متناهية. ولذلك ظن قوم أنه توجد نتائج كثيرة في كل واحد من الأشكال غير النتائج التي ذكرها أرسطو، وذلك إما جزئياتها وإما عكوسها. وتلك إن جعلت مطلوبات، ثم أنتجت بتوسط النتائج الأول، فذلك إنتاج بطريق غير طبيعي بل صناعي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015