هذه الأحاديث الآنفة الذكر كلها تبين لنا الدلالة على هذه القاعدة العظيمة، وهي أن المشقة تجلب التيسير، فكلما شق على المكلف تطبيق الأحكام الشرعية كلما لاح في الأفق التيسير، وأسباب التخفيف والتيسير والترخيص في الشرع كثيرة منها: أولاً: السفر، ثانياً: المرض، ثالثاً: الإكراه، رابعاً: الأمور التي عمت بها البلوى، خامساً: النقص.
فالسفر: يحفه ما يحفه، فلو أن رجلاً سافر ليؤدي شعيرة العمرة على الباخرة أو على السيارة ولم يسافر على الطائرة، وهو صائم في رمضان فوجد المشقة في السفر، فإننا نقول له: هذه مشقة هل تستطيع أن تحتملها أم لا؟ فإن قال: لا أستطيع، قلنا له: فإن الله قد يسر عليك، وفتح لك أبواب التيسير والقاعدة: المشقة تجلب التيسير، فتيسيراً عليك أفطر هذا اليوم أو اليوميين أو الثلاثة التي تسافر فيها، حتى لا تلحق بك المشقة.
وأيضاً: إذا سافر المرء في تجارة إلى بلاد الكفار فجاء وقت الصلاة ويشق عليه أن يصلي الصلوات في أوقاتها فإننا نقول له: إن الشرع يحمي لك أموالك مع حفظك لعبادة الله جل في علاه، والمشقة تجلب التيسير، وقد يسر الشرع عليك، فاجمع جمع تأخير أو جمع تقديم، واقصر الصلوات الرباعية، ولست ملزماً بأن تصلى الصلاة في وقتها، بل لك الجمع والقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة وفي غيره، وهذه من حكمة الله حتى لا ينفر المكلف من عبادة الله جل في علاه، وحتى لا يرى أن في هذا الدين آصاراً أو أغلالاً عليه، والله جل وعلا إنما يكلف الناس بما يكون ميسوراً عليهم، وبما يكون في استطاعتهم؛ حتى يسارعوا إلى الله جل وعلا ويتنافسوا في الخيرات.
أيضاً من أسباب الترخيص والتيسير المرض فإذا مرض المكلف فلم يستطع أن يصلي قائماً إلا بمشقة كبيرة، فإن الشرع يبيح له بأن يصلي قاعداً، فإن لحقت به المشقة أجاز له الشرع أن يصلي مضطجعاً، فإذا قال: لا أستطيع أن أصلي وأنا مضطجع قلنا له: تومئ برأسك، فإن لم تستطع فتومئ بعينك، خلافاً لبعض أهل العلم الذين قالوا: تسقط الصلاة عن مثل هذا، فإن الصلاة لا تسقط، وإن كان صائماً في رمضان ولا يستطيع أن يصوم فليفطر، فالله جل وعلا قد يسر عليه بقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
وأيضاً في المرض إذا لم يستطع المرء أن يصلي قائماً في المسجد قلنا له: صل قاعداً في المسجد جماعة، فلا تسقط الجماعة بالمرض.
وكذلك إذا اُكره المرء على شرب الخمر، بأن يوضع السيف على رقبته ويقال له: تشرب الخمر أو تقتل؟ فهذه مشقة بالغة، والشرع جاء لحفظ الضروريات الخمس ومن أهمها بعد الدين النفس، فله أن يشرب الخمر مكرهاً، ويقول له الفقيه: المشقة التي لا يمكن أن تتحملها -بقطع رقبتك أو بموتك أو بإزهاق روحك- تيسر عليك، فالمشقة تجلب التيسير.
وأيضاً: إذا أخذ الكفار رجلاًَ من المسلمين ثم صلبوه وأرادوا قتله، فقالوا له: تكفر وإلا قتلناك؟ فهنا المشقة التي لا يستطيع أن يتحملها بقتله تجلب له التيسير، فله أن يقول كلمة الكفر، كما فعل عمار فقد قالوا له -بعد التعذيب الشديد والتنكيل به-: لا نتركك حتى تتكلم في محمد صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه، فلما ذهب يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا من الأدلة العظيمة على هذه القاعدة المشقة تجلب التيسير- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: يطمئن بذكر الله جل في علاه، قال: فإن عادوا فعد، يعني: هذه المشقة جلبت لك التيسير، بأن تتلكم بكلمة الكفر.
وأما النقص: فيكون سبباً في استجلاب التيسير؛ لأن نقص المكلف يشق عليه تطبيق الأحكام الشرعية، والنقص: هو كالرق والأنوثة والصغر والجنون، وهذا اسمه: نقص في الأهلية، فإن الطفل الذي لم يبلغ الحلم والمجنون غير مكلفين؛ للنقص، والمشقة تجلب التيسير، فيشق على المجنون أن تقول له: عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، ممكن أن يصبر على صلاة واحدة، لكن مستحيل أن يصبر على جميع الصلوات، فتسقط عنه الصلوات، وفي المعاملات كذلك، أي: يشق عليه أن يبيع ويشتري، فلا نمرر العقد الذي يعقده طفل، ولا العقد الذي يعقده المجنون.
وأما عمت به البلوى، فكالنجاسات المعفوا عنها في الثوب وفي الأرض وفي غيرها.
وصور هذه القاعدة كثيرة جداً، وسننتهي في الكلام على هذه القاعدة الجميلة أي: قاعدة المشقة تجلب التيسير، بتقسيم العز بن عبد السلام فقد قسم تقسيماً بديعاً وهو يتلكم عن ترخيصات الشرع فقال: ترخيصات الشرع تعتبر أنواع ستة أو سبعه: الأول: ترخيص إسقاط، وهذا يعتبر رخصة جامعة، وترخيص الإسقاط كإسقاط الجمعة عن العبد وعن المرأة وعن المسافر، في الحج وافق يوم الجمعة يوم عرفة فخطب بهم وصلى بهم ظهراً، وجمع معها العصر، وفي هذا دليل على إسقاط الجمعة عن المسافر، ويسقط الحج وتسقط العمرة، يقول الله جل وعلا: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
مفهوم المخالفة: إن لم يستطع فلا حج عليه، فيسقط الحج وكذلك العمرة، بل إن العلماء مختلفون هل هي سنه أو فرض؟ فهذا اسمه ترخيص إسقاط عند العذر، فالذي ليس عنده زاد ولا راحلة نقول له سقط عنك الحج وسقطت عنك العمرة، وكذلك تسقط الزكاة، عن الفقير، وهذا يسمى ترخيص إسقاط.
الثاني: ترخيص تقصير أو نقص، كأن يشق على الإنسان أن يأتي بالعبادة كاملة فيرخص له الشرع بأن لا يجعلها عليه تامة ولا كاملة، بل يأتي بها ناقصة، مثل: قصر الصلاة في السفر، فتقصر الصلاة الرباعية، أما المغرب فلا تقصر وكذلك الفجر.
الثالث: ترخيص الإبدال، كالكفارة قال الله جل وعلا: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89]، إذاً: فالكفارة إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقة فإذا لم يجد ذلك جاء الترخيص بالإبدال، فقال: فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، سواء متتابعات أو غير متتابعات، ومن ترخيص الإبدال: كفارة الصيد، فإنه من قتل صيداً جعل الله عليه مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منا، هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين، فإن شق عليه ذلك فالصيام؛ ليذوق وبال أمره، فجعل الصيام بدلاً.
أيضاً من الإبدال: التيمم مع وجود الماء، وذلك أن الأصل أنه لا يتيمم مع وجود الماء، لكن هذا عندما ينجوا من العوارض، أما لو وجد مريض عنده كسر أو جروح وإذا سقط الماء على الجرح فسيزيد له في الألم والمرض، فإنه لهذا العارض يتيمم ولا يتوضأ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وفي الحديث المشهور: أن رجلاً كان به شج في رأسه فنام فقال لأصحابه لما استيقظ: قد أجنبت فماذا أفعل؟ قالوا: لا نرى لك إلا الاغتسال، قال: الشج في رأسي، قالوا: لا نرى لك إلا الاغتسال، وكثير من المحدثين يضعفون هذا الحديث، لكن نحن نستأنس به، فاغتسل فمات، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال)، فالجاهل شفاؤه أن يسأل ويتعلم ولا يتكبر ويفتى بغير علم فإن هؤلاء أفتوه بغير علم فضلوا وأضلوا نسأل الله أن يغفر لنا ولهم، وهذا اجتهاد إن شاء الله مغفور لهم، وفي ميزان حسناتهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (قتلوه قتلهم الله)، فهو الآن في ضرورة أو في عارض عرض له فلا يقال له كما يقال للصحيح، فنقول: مع وجود الماء عليك أن تعمم الجسد كله إلا موضع المرض، فإذا كان المرض في الرأس قلنا: إلا موضع الرأس، فتتيمم للرأس وهذا قول كثير من العلماء، لكن نقول الأولى من هذا أن لا نجمع له بين البدل والمبدل، فلا نقول: تيمم واغسل، ولكن اغسل وامسح، يعني: خذ الماء بيدك حتى يجف وامسح على رأسك، فالمسح يكون بديل لوجود الماء، وهو قبل التيمم فلا يجمع بين التيمم وبين الغسل.
الرابع: ترخيص تقديم، رجل جراح عنده مريض، والعملية ستكون عند أذان العصر، وهي عمليه خطيرة جداً، وليست بالهينة، ومدتها من أول أذان العصر إلى المغرب، فسيضيع عليه العصر، فنقول له: إن الأمر فيه فسحه وتيسير؛ لوجود مشقة عظيمة على المريض، والمشقة ستجلب التيسير والترخيص، والترخيص هنا بالتقديم، فقدم الظهر مع العصر واجمع جمع تقديم، فإن قال الجمع مرخص فيه في السفر فقط، قلنا: دعك ممن يحجر واسعاً، وخذ بالحديث الصحيح وبمذهب ابن المسيب وقبله ابن عباس فإنه قال: جمع النبي في المدينة من غير سفر ولا مطر، وفي رواية: من غير مرض، قالوا: لماذا يا ابن عباس؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته أي: أراد أن لا يوقع الحرج على الأمة، فنقول رفعاً للحرج عن هذا الطبيب: صل العصر مع الظهر، والرجل المريض نقول له أيضاً: لا تسقط عنك الصلاة، فقدم العصر مع الظهر، فإن قال: أشعر أن نفسي ستخرج، قلنا: اجعل آخر أنفاسك في الصلاة، فهذا ترخيص تقديم.
ومن ترخيص التقديم: إخراج الزكاة قبل الحول، فإن هذا ترخيص وليس أصلاً؛ لأن الأصل أن كل عبادة مؤقتة بوقت لا تصلح إلا في وقتها.
والدليل: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
فإذا كان الفقر مدقع وكانت الحاجة ملحة وكثر الفقراء، فإنه يأتي ترخيص التقديم، فتقدم الزكاة عن الحول، يعني: لو أن رجلاً سيموت مع