هناك أدلة على هذه القاعدة العظيمة من الكتاب، ومن السنة، ثم من الإجماع.
أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، وقال الله تعالى -بالنسبة لما تستحقه النساء-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأرجع سبحانه كل هذه المعاملات إلى العرف المعروف بين الناس.
وأما من السنة ففي الحديث الصحيح أن هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه قالت: يا رسول! إن أبا سفيان رجل شحيح، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
فقيد الأخذ من مال الزوج بالمعروف.
وفي الموطأ قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المملوك: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف) فكأن سائلاً يسأل: يا رسول! ما النفقة التي تكفي المملوك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً اعتبار العادة واعتبار ما اعتادت عليه النساء لـ زينب بنت جحش: (تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام)، فأرجعها إلى ما اعتادت عليه النساء؛ لأن النساء في الحيض: امرأة مبتدئة، وامرأة معتادة أي: لها عادة تتكرر فترجع إلى هذه العادة إن استمر نزول الدم.
ومن الأمثلة الفقهية التي تبين العمل بهذه القاعدة: فتوى مالك في رجل تزوج امرأة ثم تنازعا في الصداق، فقالت المرأة: لم آخذ الصداق، وقال الرجل: قد أعطيتها صداقها، فلما سئل مالك قال: القول قول الزوج.
وإذا تأملنا فتوى مالك وجدنا أنها على خلاف الأصل؛ لأن الأصل: هو أن المرأة لم تقبض الصداق، والناقل عن هذا الأصل الصحيح هو العادة, فعادة أهل المدينة في ذلك الوقت: هي أن الرجل العاقد لا يدخل على زوجه حتى يعطيها الصداق، ومصداق ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما زوج فاطمة بـ علي بن أبي طالب وقال له: (لا تدخل عليها حتى تعطيها صداقها) ولذلك قال القاضي إسماعيل من المالكية: أفتى مالك بهذه الفتوى على غرار أن العادة محكمة، فعادة أهل المدينة أنهم لا يدخلون على النساء حتى تقبض النساء الصداق، فلذلك قال القول قول الزواج، قال: أما في هذا الزمان فقد تبدلت العادة وتغيرت، فيكون القول في هذه المسألة بالأصل، وهو أن القول قول المرأة، إلا إن يأتي الرجل ببينة أنه قد أعطاها صداقها.
ومن الأمثلة التي تبين أن العادة محكمة ولها اعتبار في الشرع: صحة بيع المعاطاه، فالأصل في البيع أن يكون عن تراض، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا صريح على أن البيع لا بد أن يكون عن تراض، وقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) وهذا أسلوب حصر، فقوله: (إنما) حصر لصحة البيع، وأنه لا يصح بأي حال من الأحوال إلا بهذا الشرط، وهو التراضي، والتراخي عمل قلبي، والعمل القلبي لا يعرف إلا عن طريق الظاهر، ولا يُعرف ما بداخل القلب, إلا عن طريق اللسان والأفعال، ولذلك لا بد من لفظ إيجاب وقبول، فيقول المشتري: اشتري هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول الثاني: قبلت، أو يَقول البائع: أبيعك هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول وهو دليل التراضي.
ولكن لما ظهر في عادات الناس أنه إذا أراد المشتري شيئاً أخذه ودفع الثمن، كأن يشتري الرجل رغيفاً من الخبز فيضع النقود أمام البائع ثم يذهب، ولم تجر بينهما ألفاظ البيع من الإيجاب والقبول، فكان ذلك عادة منهم، والعادة محكمة.
فالمشتري يضع المال والبائع يعلم أنه يريد الشراء، فيحصل البيع بدون لفظ الإيجاب والقبول.
ومن الأمثلة على ذلك: ما تعارف عليه الناس في ركوب سيارات الأجرة، فإن الرجل يوقف السيارة ثم يركب فيها إلى المكان الذي يريد، ولم يتفق مع السائق على أجرة معلومة، فقد اعتاد الناس أن يعطى السائق أجراً معيناً، والعادة بينهم محكمة، ولا يصح أن نقول: هذه أجرة مجهولة؛ لأن العادة بين الناس جرت بذلك، وكذلك بيع المعاطاة فإنه جائز رغم أن التراضي عمل قلبي ولا بد له من أظهار البيع باللفظ، ولكن العادة هي التي جوزت هذه المعاملة، والعادة محكمة.
ومن الأمثلة على أن العادة محكمة: أن رجلاً رأى امرأة فأعجبته، ورأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، فتقدم لها، فقبل أبوها، فتزوجها ولم يسم لها مهراً، مع أنه من أركان العقد، فلما دخل بها سألته المهر فقال: لم أسم لك مهراً، وأعطاها عشر جنيهات وقال: هذا هو مهرك، فتنازعت معه ولم ترض بما أعطاها، فرد هذا التنازع إلى صاحب الشرع، فقال الرجل: تزوجتها على مهر -وهو يعلم أنه من أركان العقد- وقالت المرأة: تزوجني على المهر ولم يسمه، فقال صاحب الشرع: يكون للمرأة مهر مثيلاتها في الجمال والحسب والنسب؛ لأن مهر المثل هو العادة, والعادة محكمة.
أيضاً من الأمثلة التي تبين اعتبار الشرع للعادة: المرأة إذا تقدم لها الرجل ورضيت به فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن حياء المرأة البكر يمنعها من الكلام، وأن معرفة قبول المرأة للرجل هو الصمت، وقال العلماء: ومن الصمت الابتسامة كذلك، أو احمرار الوجه، أما البكاء فإن البعض قال: إن كانت الدموع حارة فهي دموع الحزن، فيدل على الرفض، وإن كانت باردة فهي دموع الفرحة ومعها يكون الرضى.
لكن العادة أن المرأة إذا تقدم الرجل لخطبتها فبكت وصاحت وولولت فلا يمكن أن نقول: هذا دليل على رضاها؛ لأن العادة أن البكاء يدل على الرفض، ولا يدل على الرضى، فتحكم العادة، ولا تزوج المرأة بهذا الرجل.
ومن الأمثلة التطبيقية على أن العادة محكمة: إذا تزوج الرجل الغني امرأة غنية وبخل عليها بالطعام والشراب، فطلبت منه النفقة، وتنازعا ورفعت القضية إلى الفقيه وكان فقيهاً مقعداً، فسأل المرأة عن طعامها في بيتها، وسأل الرجل عن مقدار دخله، فوجده غنياً فقال: نطبق قاعدة العادة محكمة، يقول الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فيلزم الرجل بالنفقة التي ينفقها أهله وجيرانه والمحل الذي يعيش فيه.
ومن الأمثلة على قاعدة: العادة محكمة: زينة الصلاة، فإذا كان اللباس الذي يلبسه الإنسان في الصلاة من اللباس المتعارف عليه، والذي اعتاد الناس أن يلبسوه في الصلاة، فلا ينكر عليه، أما إذا كان لباساً غير متعارف عليه، وكانت عادة الناس الإنكار على من صلح بتلك اللباس، فهذا ينكر عليه.
وأروع الأمثلة في ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل على نافع وجده يصلي بين يدي ربه بغير غطاء الرأس، فلما انتهى عنفه وقال له: أتخرج بين الناس هكذا؟ قال: لا, قال: الله أحق أن تستحي منه, فهنا حكم ابن عمر العادة.
وفي هذا الزمان لو كانت العادة بين الناس أن الذي يسير بغير غطاء الرأس مخروم المروءة، أو أن كشف الرأس ليس من الزينة في الصلاة, فلا ينبغي الصلاة إلا والرأس مغطى، أما إذا اعتاد الناس أن يسيروا دائماً مكشوفي الرأس كما في مصر مثلاً، فلا ينكر على من صلى لله منهم حاسر الرأس، بعكس بلاد الخليج، فإن العيب عندهم أن يسير الرجل مكشوف الرأس وكذلك العباءة، فإن لبسها في مصر شيء لا ينكر عليه، أما في بلاد الخليج فإن لباسها يكون للنوم فقط، ومن العيب أن تلبسها خارج البيت.
إذاً: من خرج إلى المسجد يصلي مكشوف الرأس في بلد ينكرون هذا الفعل فإنه ينكر عليه؛ لأن العادة محكمة.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة في باب النكاح والطلاق، وما يتعلق بهما من المهر والشبكة وغير ذلك.