مثال العادة والعرف العام: أن يكون بين رجل وآخر مشاحنة، فقال الطرف الأول: والذي نفسي بيده لا أضعن قدمي في دارك، فاستصعب الأمر وشق على الذين يدخلون في الإصلاح بينهما، فالأول مصر على أنه أقسم أن لا يضع قدمه في داره، فجاء الفقيه ليفصل في النزاع، وليؤلف بين القلوب فقال: لا تدخل الدار بقدميك، وادخل محمولاً على الأعناق، أو على خشبة، وبعد أن دخل الدار، قال صاحب القواعد الفقهية: عليك كفارة؛ لأنك قلت: لن تضع قدميك في هذه الدار، فقال الفقيه: لم يدخل بقدميه، بل دخل محمولاً على الأعناق.
فحدث نزاع بين المقعد وبين الفقيه الذي يحفظ بعض الفروع ويتكلم بها أمام الناس، فلكي يفصل النزاع لا بد من الرجوع إلى قاعدة: العادة محكمة، والنظر في عادات الناس، فإذا قال الرجل: والذي نفسي بيده لا أضع قدمي في هذه الدار، فليس معناه: أنه يجوز له أن يدخل على يديه، أو يحمل على خشبة أو غير ذلك؛ لأن عرف الناس أنه لو قال: والله لا أضع قدمي أي: لا أدخل لا محمولاً ولا على يدي، فالعلماء في هذه المسألة يقولون: إن العادة محكمة، وعليه أن يكفر عن يمينه؛ لأن المقصود: هو أن لا يدخل الدار.
ومن الأمثلة على هذه القاعدة: عقد الاستصناع، فقد أجازه الأحناف، ولهم وجهتان في جوازه: الوجهة الأولى: أن هذا مما عمت به البلوى، كما في القاعدة في الملة السمحة: تخفيف كل ما عمت به البلوى.
والثانية: أن الناس تعارفوا عليه، ومنذ الأزل وهم يتعاملون به، فيستصنعون شيئاً ويعطون جزءًا من المال، ثم يقسطون الآخر، فطبق الأحناف في هذه المسألة قاعدة: العادة محكمة، وقالوا: إن عقد الاستصناع صحيح؛ لأنها عادة محكمة معتبرة في الشرع، فهم يرون أن الاستصناع عقد مستقل، لم يتكلم الشرع عليه بالجواز أو بالمنع، فرجعوا إلى الأصل وهو أن الناس تعارفوا عليه ولم يأت دليل يمنعه.
أما الجمهور فيرون أن عقد الاستصناع لا يعمل به؛ لأن العادة إنما يعمل بها عند فقدان الدليل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فقالوا: هذا سلم ناقص الشروط، فلا يصح أن نقول هنا: إن العادة محكمة؛ لأنها صادمت الشرع.