هذه توابع مهمة جداً لهذه القاعدة منها: أولاً: إذا قلنا بالتعريف الفقهي: أن أعمال المكلف صحة وبطلاناً إثابة أو رداً تترتب على النية، و: (إنما الأعمال بالنيات).
فلو انتفى شيء من هذه القيود التي بانتفائها لا يوجد الحكم، كما قعدنا قاعدة سابقة، فلو وجدت النية التي رأس الأمر عليها دون العمل لا يترتب عليها الآثار الشرعية، وبالمثال يتضح المقال: رجل تزوج امرأة، كغراب البين التي كانت دائماً تقول للرجل الذي يقول: لا بد أن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، وحكموا عليه في المحكمة بالردة، وقالت: هذا زوجي يقيم الليل، والحمد لله أن ربنا رزقه بهذه المرأة، وهذا أول عقاب في الدنيا، فما يدخل إلا وتنظر له نظرة وحش كاسر، ولا يسمع إلا جعجعة أو لا يرى إلا وليداً تصفعه على وجهه، وكان ضعيف الشخصية، كلما يدخل يقول: ربنا نجني منها، فإذا نظر إليها قال: طالق ألف مرة أو سبعين مرة، وكل يوم من ضيقه منها يتحدث مع نفسه: هي طالق، طلقتها اليوم، سأطلقها غداً، طالق ألف مرة، طالق مليون مرة، لكنه من جبنه لا يستطيع أن يتلفظ.
وهو إذا تلفظ لا بد أن تتزوج زوجاً غيره فيبتلى بها لتحل له، وذهب هذا الرجل الضعيف إلى الرجل الفقيه غير المقعد فقال له: إني أبغض هذه المرأة وكلما دخلت عليها ورأيت وجهها العبوس قلت في قلبي: طالق، ولا أستطيع أن أصرح بها، وقلت: طالق طالق طالق قال: يا بني! القاعدة عند العلماء: الأمور بمقاصدها، وقد نويت طلاقها، وإنما الأعمال بالنيات.
وأنت قد طلقتها ألف مرة، فقد عصيت الله بتسعمائة وتسعين مرة، وبثلاث قد بانت منك بينونة كبرى، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، وهؤلاء الفقهاء هم الذين تعج الأسواق بهم، فارتاب الرجل في قوله، وقال: لعلي أنظر إلى فقيه مقعد ومؤصل، فرجع للفقيه المقعد المؤصل فأخبره، فقال: من قال لك ذلك؟ قال الفقيه الفلاني قال: هذه ترجع إلى القاعدة التي قعدها، وهي قاعدة صحيحة، لكن تطبيقه لها كان تطبيقاً فاحشاً خطأ، إذ أن القاعدة: الأعمال بالنيات، وأنت لم تعمل، ولم تتكلم، ويلوح في الأفق أمامي دليل يريح قلبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل).
إذاً: أناط المسألة بالعمل، فإذاً: ارجع فهي زوجتك، إلا أن تطلقها بلسانك.
فهنا خرجت القاعدة وما طبقناها تطبيقاً دقيقاً، وعلمنا: أن الأعمال الظاهرة ترتبط بهذه النيات، هذه واحدة.
ثانياً: استثناء، وذلك أنا قعدنا: إن هذه الأحكام في القواعد أحكام أغلبية، فانظروا إلى هذا الاستثناء وهو: إلغاء مسألة النية في الظاهر الذي لا يحتاج لتأويل، وقلنا هذا في باب الطلاق أو النكاح لحفظ الفروج؛ لأن هذه المسألة من أهم المسائل، والفروج حقها عند الله عظيم، فلحفظ الفروج قال علماؤنا: الظاهر في الطلاق أو النكاح أنه لا يحتاج لنية، فإذا دخل رجل على امرأته فقبلها، وجلس معها يسايرها، ووجد منها الخير كله، فأحبها كثيراً، وبعدما أحبها وتكلم معها قال: أنت طالق يا حبيبتي، وهو يمازحها طبعاً مزاحاً أسود، فلما قال: أنت طالق بكت المرأة، فقال: ما يبكيك، هذا مزاح ولا يقع فقالت: لا بد أن ترجع للفقيه، فرجع للفقيه أو المأذون الشرعي، فقال: قلت لها طالق ولم أنو الطلاق، فقال: يا بني! (إنما الأعمال بالنيات)، والأمور بمقاصدها، ارجع لامرأتك فهي امرأتك، وليست بطالق، فلما رجع إلى الفقيه المقعد قال له: نعم، الأمور بمقاصدها، لكن: جاءني استثناء، أو جاءتني آية ظاهرة جداً، أو جاءني حديث ظاهر جداً، أما الآية فقال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:230]، وهذه عامة مطلقة، ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يأت المقيد يقيده، ويبقى العام على عمومه ما لم يأت مخصص، فقال: ((فَإِنْ طَلَّقَهَا))، ولم يفتقر الأمر إلى نية، وأما الحديث فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث مختلف فيه لكن هناك من صححه-: (ثلاث جدهن وهزلهن جد)، إذاً: حتى ولو كنت مازحاً فقد ألغي الحديث المزح.
وهنا القاعدة صحيحة، لكنه -أي: الفقيه غير المقعد- لم يطلع اطلاعاً واسعاً حتى يأتيك بالحكم الصحيح، فأنت الآن وإن كنت مازحاً فقد طلقت امرأتك.
فإذا طلقتها وأنت مازح فقد أحللتها من الوثاق إلا في حالة واحدة، وهي: إذا احتفت القرائن، وبينت لنا أنك جاهل عن هذه النية، أو قلت هذا الكلام وأنت لا تريده، ولولا أن هذا حدث في زمن الصحابة ما قلنا به، والذي جعلنا نقول بذلك: أن القرائن المحتفة إذا جاءت وقوت عدم إرادة الطلاق قلنا به.
ففي زمن عمر بن الخطاب عندما جاءت المرأة تقول لزوجها -وكانت تبغضه وتريد أن تنفك منه- ما أرضى بك حتى تتغزل فيَّ فقال: أنت قمر أنت شمس أنت حسناء، قالت: لا، والله ما أرضى إلا أن تقول أنت خلية طالق فقال: أنت قمر خلية طالق، فهنا الكلام ظاهر جداً أنه يتغزل ولا يريد الطلاق بحال من الأحوال، فهو قال: أنت قمر أنت شمس، قالت: هذا الغزل لا أريده، قال: لقنيني قالت: قل -وكان غراً لا يعلم أن هذا طلاق-: خلية طالق، قال: أنت قمر خلية طالق.
فهنا القرائن المحتفة أثبتت عدم إرادته الطلاق جزماً، فلما ذهب إلى عمر -الفقيه- قال له عمر بن الخطاب: ارجع فأوجعها ضرباً فإنها امرأتك، وليست بطالق.
إذاً: فهذه مستثناه، وهذا الاستثناء إذا احتفت به قرائن تثبت الجزم في إرادة الطلاق فيقع، أو تثبت الجزم في عدم إرادة الطلاق فلا يقع.
فهنا فرق بين النية وبين اللفظ، فاللفظ الصريح أقامه الله مقام النية، فلا يحتاج إلى تأويل، ولا يحتاج إلى نيات، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وأيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد).
إذا: فحتى لو مازحها فقد ألغيت النية وبقي اللفظ الظاهر، وهذه الحكمة لحفظ الفروج ولئلا يتلاعب أحد، فيأتي رجل ويطلق امرأته مرة ومرتين وثلاثاً، ولكنه يعشقها، ولا يريد أن ينفك عنها، لا والله كنت مازحاً وما نويت الطلاق، ولو قلنا بهذا القول لفتحنا باباً كبيراً، وشراً مستطيراً على الناس، لكن حفاظاً على هذه الفروج قلنا: أنزل الله الظاهر منزلة الباطن فلا نحتج بهذه القاعدة، فهذا كل ما يرتبط بهذه القاعدة العظيمة من صور.