من هذه الصور ما يلي: الصورة الأولى: رجل سار بسيارته فوجد أمامه شبح رجل فقتله بالسيارة، فنأتي بالصور لنطبق القاعدة عليها؛ ليعلم طالب العلم كيف يطبق القواعد وكيف كان الفقهاء يطبقون هذه القواعد.
عندنا رجل نريد الحكم عليه، والحكم يحال إلى القاضي الفقيه النحرير، رجل قتل رجلاً بسيارة، فعند الحكم عليه نأتي إلى القاعدة، فيقول الفقيه: الأمور بمقاصدها، إذاً: ننظر إلى الفاعل وإلى قصده ونيته، فإن كانت النية: قتله عمداً، فله حكم، وإن كانت النية أن لا يقتله عمداً، وقتله خطأً، فله حكم آخر، مع أن القتل واحد.
إذاً: فالمقاصد تغير لنا الأحكام، فإذا كان صاحب السيارة دهس هذا الرجل وقتله قاصداً ذلك مع سبق الإصرار والترصد -كما يقولون- فحكمه القتل والقصاص.
ولذلك قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]، إلى آخر الآيات، وقال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45].
فنطبق القاعدة، أي: الأمور بمقاصدها، فهو لما قصد قتله حكمه بهذا المقصد القتل، فتأملوا إلى أنه باختلاف المقاصد تختلف الأحكام، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، منها: (النفس بالنفس)، والمقصود أن حكمه القتل.
لكن لما غاير القصد، فما قصد القتل عمداً، بل قتله خطأً، فيتغير الحكم، مع أن الفعل واحد، والضرب بالسيارة واحد، لكن النية غيرت الأحكام في الفعل الواحد، فلما ذهب عن نية العمد قلنا له: حكمك حكم قتل الخطأ، وقتل الخطأ حكمه: الدية مخمسة وصوم شهرين.
فلما كان قتله خطأ غاير حكمه حكم العمد؛ للقاعدة، فكل بنيته، و: (إنما الأعمال بالنية) صحة أو بطلاناً ثواباً أو عقاباً، والأمور بمقاصدها، وهذه الصور في الحدود.
ومن الصور في الأموال: رجل كان يحب رجلاً، ورآه في ضيق فأعطاه مالاً، وقال: أراك تحتاج هذا المال، وهو ألف جنيه مثلاً، فلما أعطاه المال وتصرف الرجل فيه، بعد مدة جلس يتساءل لم لم أسأل الفقيه المقعد المؤصل ما حكم هذا المال؟ فالإجابة ستكون من الفقيه بأن يقول: الأمور بمقاصدها، ومالك فيه تفصيل، فإن كنت أعطيته هذا المال هبة فلا رد؛ لأن الموهوب له قد امتلك هذا المال بالقبض ولا رد، وكذلك إن أرادت أن تتصدق عليه.
وإن أردت بذلك المال أن تعطيه قرضاً دون أن يجر النفع فإن هذا المال حكمه أنه دين، ولا بد من الرد حين ميسرة إن كان معسراً؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإذا قصدت بإعطائك له المال أن يكون وديعة، أو أمانة فتلف في يده دون تفريط فحكمه عدم الرد، إلا حين الطلب؛ لأن يد المودع يد أمان، ليست يد ضمان أبداً.
لو أن أحد الناس أخذ وديعة يحملها ويحفظها، ولم يفرط فيها، فسرقت ليس عليه شيء؛ لأن يده يد أمان وليست يد ضمان.
إذاً: يتغاير الحكم في أكثر من حالة بالمقصد، فلما جاء المقلد الأعمى الذي يسمع هذا فيقول: أنت رجل متذبذب، وليس عندك ثمة علم؛ ففي مسألة واحدة أو فعل واحد أعطيتنا ثلاثة أحكام! فرد عليه الفقيه المقعد بقوله: أنت مقلد وما كان لك أن تتكلم، ولو تعلمت العلم لعلمت أن هذا الحكم تغاير بقاعدة مهمة جداً عند أهل الفقه والعلوم، وهي: الأمور بمقاصدها، وإذا تغيرت النية تغير الحكم تبعاً لذلك فالحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات).
الصورة الثالثة -وهي في الأموال أيضاً-: رجل كان صاحب أمل، ويكثر من أحلام اليقظة، وكلما يسير في الشارع يقول: لو رأيت مليوناً، أو ألفاً أو ألفين، فقدر الله عليه وهو يسير فرأى أسورة من ذهب تتلألأ أمامه، خطفت بصره، فنظر إليها فأخذها بيده، وجلس يحلم: سأتزوج بها المرأة الجميلة التي أحبها، وتنجب، ثم أعلم هذه البنت القرآن، ثم أبيع هذه الأسورة وأعمل شركة كذا وكذا، حتى جاء الغراب فأخذها من يده، وضيع عليه كل أحلامه التي يريدها، فجاء رجل أسود، وكان فحلاً كالجبل، فوقف أمامه فقال له وهو يأخذ بتلابيبه: أين أسورتي؟ رأيتها في يدك فأنت سارق، قال: لا والله! لست بسارق، أهي أسورتك؟ قال: نعم، هي أسورتي قال: إذاً يحل هذا الإشكال الفقيه، فذهبوا للفقيه المقعد المؤصل فسألوه عن هذه المسألة، فقال لهم: عندي قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها: ودليلها: (إنما الأعمال بالنيات).
فقال: ننظر في الرجل الذي أخذ الأسورة، فله أحوال، وهذه الأحوال متغايرة، لكنها مرتبة على نيته في الالتقاط، فإن التقطها ليمتلكها، وهو رجل قتلته أحلام اليقظة، فلما جعلها على طرف إصبعه، جاء الغراب فأخذها فنقول: إنه فرط فيها، وما حافظ عليها، بنية أن ويكون غاصباً، والغاصب يضمن سواء أفرط أم لم يفرط، والقاعدة عند العلماء: إن الغاصب يضمن إذا فرط أو لم يفرط.
فنقول له: حالك كالأول بنيتك، فهل تقسم بالله على هذه النية؟ أي: أنك التقطت هذه الأسورة لتمتلكها، وهنا تكون غاصباً، وتضمن الأسورة للرجل، فقال الرجل: لا والله! ما نويت هذه النية.
ثم نقول له: فإن كنت التقطتها لتعرفها، أي: لتكون لقطة، فأنت الآن يدك يد أمان، فإن فرطت تضمن، وإن لم تفرط لم تضمن، فقال: ما فرطت بل أخذتها في إصبعي وجاء الغراب هذا من غير أن أراه فخطفها، فيقال له: إذاً: فلست بمفرط فلا شيء عليك، وهذه هي الحالة الثانية.
ونقول: في الالتقاط يمكن أن تكون له نية أخرى غير النية الأولى الثانية، وهي: أن يلتقطها ليتصدق بها، وفي هذه الحالة نقول له: أنت ضامن؛ لأنك تصدقت بما لا تملك، وهي ليست ملكاً لك، فرجعت المسألة حكمها كحكم الأولى فتضمن للرجل أسورته.
وهناك صورة أخرى من باب العبادات وهي كالتالي: رجل كان غنياً يملك النصاب، وقبل أن يحول عليه الحول وجد فقراء كثر فرق لهم قلبه، والله جل في علاه يرحم من يرحم من في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فرحمة بالذين ينامون في الشارع، ذهب يفرق عليهم مالاً، ثم بعدما حال عليه الحول، وقف الناس عند بيته يضجون أين الزكاة؟ أين الحق الواجب الذي عليك؟ فوقف الرجل يتذكر، وقال: قبل الحول قد أخرجت هذا المال، فما حكم هذا المال الذي أخرجته: أهو من الزكاة أم ليس من الزكاة؟ فاحتاج الرجل لفقيه مقعد يخرج الأحكام على القواعد، وقال له: أخرجت المال قبل الحول، والناس يطالبونني الآن، فما حكم هذا المال الذي أخرجته؟ فقال له الفقيه المقعد: عندنا قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها، فالأحوال والأحكام تتغاير بتغاير النيات، فلك أحوال في إخراج هذا المال: فإن أعطيت هذا المال تنوي به الاستسلاف، وأنه من الزكاة -والاستسلاف هو: تقديم مال الزكاة ويصح تقديم مال الزكاة، فكل عبادة أقتت بوقت لا يصح أن يأتي بها قبل وقتها، فهذه قاعدة عامة، وتقديم الزكاة من هذه القاعدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة عامين أو سنتين.
إذاً: فإن كانت النية عندك الاستسلاف أن تقدم مال الزكاة، فتبرأ ساحتك وليس عليك شيء، وإذا طالبك أحد فقل: أخرجتها وبرئت ساحتي أمام الله جل في علاه، وهذه هي الحالة الأولى.
الحالة الثانية: إن أردت بنيتك أن تقدم الزكاة، لكن النية تغيرت وأنت تدفع المال فجعلتها صدقة، وجب عليك أن تخرج الزكاة.
الحالة الثالثة: إن نوى أن تكون هبة لهؤلاء الناس، فنقول له: هذه الهبة أنت مثاب عليها عند ربك جل في علاه، وعليك أن تخرج الزكاة من جديد.
والفرق بين الصورة الثالثة والثانية: أن الصدقة يبتغي بها وجه الله، أما الهبة فيمكن أن يبتغي بها وجه القرب للقرين، أو لمن فوقه، هذا هو الضابط الفارق المميز بين الهبة وبين الصدقة.
ونقول له: حتى لو فعلت ذلك لتتقرب أو تتحبب لمن أعطيته فحكمك: أنك لا بد أن تخرج الزكاة.
فهذه صور تبين لنا كيف كان علماؤنا يطبقون هذه القاعدة العظيمة الجليلة: الأمور بمقاصدها.