قبول الحق من أهل الباطل

الملقي: ذكرت في محور سابق أنه ليس من الإنصاف أن يجحف في حق من له حق، أود أن أسأل فضيلتكم عمن ظاهره الباطل ويعمل عملاً باطلاً، ولكن يحصل أحياناً أنه يقوم بعمل حق، فكيف نتعامل مع مثل هذا الأمر؟ الشيخ: من كان ظاهره الباطل فالحق لابد أن يقبل منه، فالحق لا يرد لأنه مصدره الباطل، استدل العلماء على هذا بأن بلقيس كانت كافرة تعبد الشمس، ومع ذلك قبل الله جل وعلا منها بعض قولها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، هذا كلام الله حكاية عنها، ثم قال ربنا خاتماً الآية: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34].

قال شيخنا الشنقيطي رحمة الله عليه: فهذا قبول من الله جل وعلا لقولها، رغم أنها عابدة وثن، وفي هذا دليل على أن الحق يقبل أياً كان مصدره، فمن الإنصاف أن يخبر عن هذا الشيء الحسن الذي قاله، كما أثنى الله جل وعلا على بعض أهل الكتاب للأمانة: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75].

والمقصود من هذا: أن الإنسان مهما كان سيئاً يقبل منه الحق إذا وجد، ولا يمنع من قبولنا الحق كونه على باطل في أكثر أحواله.

لكن هناك أمثلة على الواقع المرير للتعامل مع مثل هذه الأمور، فكثير من الناس يصادر جهود كثيرة، وهذا للأسف سلوك مشين، حتى إننا لو أردنا أن نطبق هذه القاعدة عليهم أنفسهم لما قبل بعضهم من بعض، لكنها قاعدة مشوبة بالهوى، تطبق على أقوام دون أقوام؛ فالعلماء لما تكلموا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قالوا: إن الأمر بالمعروف وفعل المنكر أمران لا يسقط أحدهما بالآخر، نبه على هذا القرطبي وغيره.

ومعنى (لا يسقط أحدهما بالآخر)، أن كونه أمراً بالمعروف لا يجعله معصوماً من فعل المنكر، وكونه يفعل المنكر لا يمنع من أن يأمر بالمعروف وينكر المنكر بل كل مجراه.

ثاني الأمور: العاقل لا يصادم الواقع، وهذه مهمة جداً في قضية الإنصاف، فالشمس لا ترد بالغربال، هناك أناس تجاوزوا القنطرة فأصبح خيرهم شائعاً وفضلهم ذائعاً، ومن السفه أن يأتي إنسان ويسلبهم ذلك كله، كمن يسفه الآراء كلها.

فمثلاً: هناك أحداث ووقائع وأشخاص وأعلام ومؤسسات وهيئات، تجاوزت هذه الأمور، ليس هناك عاقل يطعن فيها ويتكلم فيها بغير إنصاف، نعم قد يقع منها خطأ، فالعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط والأنبياء من قبله، لكن ينبغي أن على الإنسان ألا يصادم الواقع ويريد أن يرد الشمس بغربال, من اللطائف في هذا أن الشاعر كثيراً كان يحب عزة، وقد اشتهر حبه لها وشاع ذكره لها بين الناس، حتى سمي كثير عزة، وكان يقول فيها الشعر، ومما قال: أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها وحلت تلاعاً لم تكن قبل حلت وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت ثم بعد هذا كله جاء نسوة إلى كثير ينفرنه منها ويذكرن له أنها شوهاء وغير ذلك من العيوب، فقال مجيباً لهن: وجاءني بعيوب عزة نسوة جعل الإله خدودهن نعالها ولو أن عزة حاكمت شمس الضحى في الليل عند موفق لقضى لها يعني: أنتم بعد هذا كله تأتون تريدون أن تبغضوا إليَّ عزة وأنا أحبها على علم واختيار، هذا غير مقبول.

فالعاقل إذا انتقد شخصية في أمور عامة أذعن الناس له، أما أن يسلبها حقها بالكلية بعد أن رست على الجودي واعترف أهل الفضل لها، وتجاوزت القنطرة وقبل الناس منذ دهر أمرها، هذا أمر غير محمود ولا مقبول، ولا يدل على كمال العقل، والمنصفون من أول صفاتهم كمال العقل ورجحانه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015