الملقي: طلب المتصل الأول من فضيلتكم ذكر بعض المواقف للنبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على حكمته وإن كانت كل مواقفه تدل على ذلك.
الشيخ: أشكر المتصل على مداخلته القيمة، وعلى سؤاله الذي أراد به نفعاً لمن يشاهد ويسمع.
أما ما ذكره من الطلب فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء بلا شك، وقد قلنا: إن الله جل وعلا بواسطة الملك جعل في قلبه الإيمان والحكمة، وكل أحواله صلى الله عليه وسلم كانت تتصف بالحكمة، وهو قصد قضية الثمار الآجلة التي لا تظهر في العمل، وهذه حدثت من أوائل الدعوة، فالله جل وعلا يقول: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، فطلب منه القرشيون أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فجاءه جبريل وقال له: إن شئت جعلت الصفا ذهباً على أنهم إن لم يؤمنوا أهلكهم الله، أو تنتظر حتى يخرج الله من أصلابهم وأرحامهم من يعبد الله، فقبل صلى الله عليه وسلم أن يتهموه بالعجز بأنه ما أخرج لهم الصفا ذهباً على أن يكون من وراء ذلك أمم بعد ذلك تحمل الراية؛ حتى إن أبا سفيان الذي حمل الراية مراراً عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم حملها بعد ذلك رفعة للدين، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم.
وأما قضية الحديبية فقد كان ظاهرها كما فهم عمر في بادي الرأي أنها وبال أو ذلة على المؤمنين، ثم نجم منها أن دخل الناس في دين الله أفواجاً في أيام الصلح، وهذا كله يدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وذكرنا مراراً أنه في دخوله المدينة عليه الصلاة والسلام لم يقبل دعوة الأوس ولا الخزرج أن يفيء إلى إحدى القبيلتين، وإنما كان يقول: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة) حتى لا يقولن أحد أنه بايع الآخر من أول يوم، هذا كله من دلائل حكمته صلوات الله وسلامه عليه الله وسلامه عليه، والسيرة حافلة بذلك، ولا أريد أن أكرر ما هو ذائع مشتهر.