القضايا الكبري (صفحة 304)

((أطلبوا العلمَ ولو بالصينِ)).

((حبر العلماء أفضل من دم الشهداء)).

فهذه الأحاديث وغيرها تدعم عملياً، كما نرى، البناءات العقلية التي أنشأها القرآن في الفكر الإسلامي الذي ينطلق محصناً، مزوداً، موجهاً هكذا للقيام بمهمته العلمية والسياسية والاجتماعية.

وإننا لنرى أثر هذا المنهج التربوي الذي هيأ المجتمع الجديد لمهماته العقلية، حتى في سلوك الفرد أمام اختباراتٍ بسيطةٍ في ظروف ذات مغزى، نرى مثلاً، عمر بن الخطاب يمر يوماً بدرب من دروب المدينة، وهو يتلو، على طريقته في الجلوس أو في المشي، يتلو الآية: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس 80/ 25 - 31].

وها عمر، يقف عند كلمة (أبّا) ويشعر أنه لا يعرف معناها، ترى كيف سيحل هذه المشكلة؟ إن عمر ليس من علماء اللغة، وهذا العلم نفسه ليس موجوداً بعد، إلى عصر صاحب كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهدي الذي يجب أن نعتبره اليوم المؤسس لعلم اللغات، وليس عمر بالمفسر أيضاً، إنه رجل فقط، رجل عمل لا يحق له أن يتورط في الشؤون التي ليست من اختصاصه، وإلا وقع فيما حذر منه القرآن الكريم في قوله لليهود: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟} [آل عمران 3/ 66].

وإننا لنرى عمر لا يقف إلا هنيهة عند الكلمة التي أوقفته، والتي لا تنقص شيئاً، إن جهلناها، من وضوح الآية لأي ضميرٍ مؤمنٍ، فالمشكلة بالنسبة له، في هذه اللحظة، ليست في نطاق العلم، ولكن في نطاق السلوك، ونراه فعلاً يحلها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015